جديد في إبيجـراما السـيد إبـراهيـم
د. يوسف
نوفل
بلغ إعجابي بهذه التجربة الفنية الفريدة حدّا
جعلني أقف موقفا لم أقفْه من قبل، طيلة ما يزيد على نصف القرن من معايشتي النصوص
الأدبية، وذلك على الرغم من أنني اهتديت، سريعا، إلى تصنيفها بين الأنواع، أو
الأجناس، لكن
اكتنازها بالكثير من ضروب الفكر، وألوان التأمل، وتلخيص التجارب، ونقد ما رأى من الناس والطباع والغرائز، والسلوك، والمبادئ- كل هذا جعلني أضيف إلى التصنيف الذي اهتديت إليه سريعا، سمة أخرى، سنعرفها في نهاية القول.
اكتنازها بالكثير من ضروب الفكر، وألوان التأمل، وتلخيص التجارب، ونقد ما رأى من الناس والطباع والغرائز، والسلوك، والمبادئ- كل هذا جعلني أضيف إلى التصنيف الذي اهتديت إليه سريعا، سمة أخرى، سنعرفها في نهاية القول.
فن الإبيجراما، في أبسط تعريف له، هو نص قصير،
مكثف، مركّز، يعتمد على تكثيف المبنى والمعنى، وإثراء الدلالة، وهو هنا يرفرف على
أجنحة القصة القصيرة، التي توصف بالومضة الخاطفة، ولحظة التنوير، وانبهار
المفاجأة، ولهذا تقترن بهذا الفن، غالبا، المفارقة المدْهشة، والختام المفاجئ
الخاطف الذي يومض كالفلاش، ويضيء كالبرق، ويدوي كالرعد، ثم يمضي في قلب التوقعات
رأسا على عقب، مستعينا بدقة اختيار
الألفاظ الدالة، الدقيقة، كما قلت عنها يوما: " تكون كالنصل المرْهف ذي الحدّ
الباتر"، تعددت أسماؤها بين: التوقيعة، أو التوقيعات، والومضة، أو
المنمنمة، واتجهتْ مراميها للنقد والتهكم
والتحذير والكشف عن مثالب، وعيوب، في ثوب رمزي، وأقنعة صوفية، أو ميثولوجية، كتب
بها طه حسين (جنة الشوك)، وداعبها الشعراء شعرا.
أما الآن فها نحن أمام سرد فني جديد، يقدمه
لنا الناقد الشاعر، أو الشاعر الناقد الدكتور السيد إبراهيم، يتخذ من فنّيْ
الإبيجراما والمفارقة قالبا لتقديم رؤيته الفكرية للعالم من حوله، وللبشر في
طبائعهم، وسلوكهم، وأسرار نفوسهم، في سبعين نصا، ولاأملك لهذا العدد تعليلا الآن.
السمات الغالبة في هذا السرد هي التركيز
والتكثيف، وأقصرها ما كان في خمسة أسطر، ومنها ما طال قليلا، والقليل منها ما طال
أكثر، ومنها ما خلص للنثر، ومنها ما جمع إلى النثر الشعر كنص (أصل الأخلاق)، ومنها
ما خلص للشعر، وهوقليل، ومثاله نص (المستحيل). لكننا، في النهاية، لم نخرج عن سمات
الإبيجراما، ودلالات المفارقة فيها.
جوهر السرد
أما كونها سردا، فلذلك سمات وعلامات، أولها:
أنها تصرح بصفتيْ (الحكـْي، والقصّ) اللصيقة به منذ التراث، من مثل:
أحاديث جدتي ـ
يضفي على القصة، ومطلع نص(المخطوط):
"حكاية
قرأتها في النسخة الأصلية" ـ الحكاية بدأتْ عندما..، و جميع الحكاية، وألف حكاية
طويلة، ويضفي على القصة، وكما حكى شاعر السأم.
وثانيها: أنها قائمة على جملة فعل السرد
المعتادة:
نسيت، ولم أصغ، ومنذ وعيـْت، وطالت الليالي،
وعندما دقّتْ السادسة في الصباح، ورأيتها أمامي، و واقتربْت مشفقا، ولكنني حاولْت، وفي بعض الأحيان أنام في القطار،
ولم أعدْ أذكر، واجتمعوا..، ومرّتْ أوقات عصيبة، وجاء لزيارتنا، ونزلنا من
الحافلة، وفي مرة ..
وثالثها: توظيفها فعل السرد التراثي (كان
يا ما كان):
كان لنا صديق.. ،
وكان يحدثنا، وكنا معا..، وكنا نتسابق، وكان فانسيول، وكانت حلم الشباب، وكانت
جماجمهم، وكانوا قد تفرقوا عن الجبل، ومنذ كنت طفلا، وكان أول دروسه..، ولم تكن
شمسه، وكان أبي، وكنت ضحية (قد تتكرر في نص واحد)، وكنت كالرصاصة، وكانت تزورنا في
المساء، وكان عليّ ( مكررة مرتين في نص"صحبة")، وكان يأتي للسلام.
ورابعها: شيوع
دالّ التذكّر، والذكرى:
يحاول التذكر، ما
يذكرني، ولم أعد أذكر، وعشت عشرين عاما على الذكرى، وحين كتب مذكراته، ومطلع (ثم)
البادئ بقوله: "تذكرت على الفور.." .
بين العجائبية والسحرية:
تنوعت وظائف السرد، فجمع بين الواقعي، والرمزي، والميثولوجي، والواقعية
السحرية، والأقنعة، واتخاذ الطبيعة بطلا، والتناص، والغربة، والحلم، والصوفية.
شاع الرمز كثيرا، فرأينا:
كلمة السر، ويبوح
بالاسم، وانتظار الصباح التالي، ورمز القطار، ومعه محطة النزول، وقطرات الكأس،
والطائرات الورقية، والنقطة السوداء، والرمز الكلي في النص الرابع عشر، والأنابيب
الضيقة، وجفاف الورود .
والميثولوجي، والواقعية السحرية:
مثل: ابتلعنا
الوحش، (يتكرر الوحش كثيرا)، والهياكل العظمية، جماجم، هياكل، الجماجم الخاوية،
وملوك الغابة، وثعالبها، وأظافرها، وما ذلك من سجال، والصخرتان في أعلى الجبل،
والشيطان،
والأقنعة:
عبد ربه التائه،
الذي يتكرر في أكثر من نص، وفانسينول، وميتامورفوسس، وفرعون، وبولاريس، وثوبان،
والراعي القديم.
واللجوء للتراث
بتوظيف المخطوط، :
الذي ناسب عبد
ربه التائه.
واتخاذ الطبيعة
بطلا فاعلا:
وذلك منذ النص
الأول (الجلمود)، حيث القمر، والنص الأخير، وهو السبعون، وعجيب أن تبدأ النصوص
بالقمر، وتنتهي به، والشمس في مقابل القمر،
والتناص:
عاقر الناقة،
والوحش، وإشعاع قصة أوديب، وما تبقى لدى الجراب قليل، وإغواء الشيطان (استيحاء من
قصة آدم)، والبهلوان.
وتجسيد الغربة:
وبلاد غريبة،
وغربتي الأبدية، والعزلة والاغتراب، وفي نهاية نص (بروتوكولات): " أيقن بطول
عزلته واغترابه".
والحلم المقترن بالصوفية، ورأيتها في
المنام، وتطول أحلامهم، وحلمت، وحلم الشباب، وفي نص (هو إياها):
" الأحلام
أعوان الحظ وملائكته الحافظون.."، ومجيء الشياطين في المنام، وامتلأت الحقائب
بالأحلام.
كما توافرت
أركان البناء القصصي
من الزمكانية:
الليل والنهار، والليالي، والزمان، ورقم الساعة كالسادسة، والتوقيت، ومدينتي،
والمدينة، والقطار، ووسائل أخرى،
وبيتنا القديم،
وذكر المكان، والجبل، والحي، والحركة، والتنوع،
والرحلة
والانتقال،
والنماذج البشرية:
أنا وهو وهي،
وأنا وجدتي، وأنا وأهل مدينتي، وما يصف المكان،
وجماعات المدينة.
والكائنات
الأخرى:
كالطيور ،
والوحوش (يتكرر الوحش كثيرا مع تنوع البطولة والدلالة)، والقردة، والنسور.
في ذلك كله نجد الوظيفة الأساسية للإبيجراما
التي نشأت لدى الإغريق للهجاء، واتخذها الشعراء أداة للنقد والتهكم، وإصلاح
الطبائع والسلوك، ففي (بروتوكولات) مع تغير لون البشرة تجلى الاغتراب،
والصديق" أبو علي الهلوان" في نص (هو إياها)، و(الأستاذ)، وصناعة
الأكاذيب، والصديق القديم الذي كثرت سمومه، وفي نص (أهل الحكمة) نقد لصاحب المنصب
الرفيع، وفي نص (التركيبة) يتضح موقف رجال التنوير.
ويبقى، بعد ذلك التوقف أمام أطول نص
(الامتنان) عن أستاذه، الذي كان أطول النصوص، ثم استمر في النص التالي بعنوان كاشف
صريح (أستاذي العزيز)، وما فيه من نقد كان مطلعه كافيا للتعبير:
" كنت
كالرصاصة التي استقرت بجوار القلب. لم تقتلني..."، وأشد مرارة نهاية النص:
" لا تفرط
في ذكري بالسوء أمام الأصدقاء، ولا تبالغ- وقد رأيتك تحتال على الموت وتقتات على
أرواح مريديك- في تقدير ما لسمومك عليّ من تأثير".
ولعلي لا أبالغ إنْ ذهبت إلى أنني أكاد أحدد
اسم ذلك الأستاذ، ولعلي لا أبالغ، أيضا،
إن قلت إن في مقدور تأوييلي الفني ما يجعلني أضيف إلى عنوان مقالي تعديلا هو:
(قطوف من سيرته
الذاتية: إبيجراما السيد إبراهيم)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق