كان مشروع الجامعة المصرية مرتبطا ارتباطاً
وثيقاً بمشروع النهضة، وكانت فكرة التجديد في أدبنا وثقافتنا مسألة محورية شغلت
بال الرواد والمفكرين في هذا المشروع. وتدفقت الفكرة عبر الأجيال المتعاقبة منذ
بداية المشروع على أيدي المبشرين به من قادة البلاد الذين تبنوه وأمدوه بروافده
وتيسير أسبابه من إحياء القديم والاتصال بالحديث. في هذا الإطار يأتي كلامنا عن
الرائد المجدد لطفي عبدالبديع.
قام اتجاهه في النقد الأدبي وفهم الشعر على الدرس المتعمق
للتفكير الحديث، وخاصة مناهج الأسلوبية الجديدة، كما تتمثل لدى الرواد الكبار،
ومنهم على سبيل المثال ليوشبتزر، ومناهج الاستاطيقا كما تتمثل لدى المفكر الإيطالي
الكبير بنيدتو كروتشه، وفنمنولوجيا هوسرل وغيرهم من المفكرين، وظهر أثر ذلك كله
فيما قدمه من تحليل لمجموعة من قصائد الشعر العربي تمتد من الجاهلية حتى العصر
الحديث، في كتابه "الشعر واللغة" الذي أخرجه إلينا- ونحن طلاب في
الجامعة في الستة الأولى منها، في أواخر الستينيات (1969)، وكان قبل ذلك مشغولاً
بهذه الأفكار انشغال صاحب الهم الثقافي الأصيل الذي يستحوذ على عقله وأوقاته.
إذا أردنا أن نتبين معالم المنهج التحليلي
عند عبدالبديع، وجب أن نرجع إلى ما كتبه في "التركيب اللغوي للأدب"، حيث
قدم عصارة هذه الأفكار التي كانت الأساس الذي أضاء له طريق التحليل وفهم الشعر.
وفي دعائم هذا المنهج الارتكاز إلى الأساس الفنمنولوجي وسيكولوجية الجشطالت، وهما
من الدعائم التي استعانت بها الأسلوبية "حتى تأتي لها من تفسير المعالم
الجوهرية للغة الفنية ما يعد ثورة في البحث الأدبي الحديث لم تشهدها الآداب من قبل
في تاريخها الطويل".([1])
وللنهج الأسلوبي الجديد الذي كان عبدالبديع
من أوائل الرواد له في عالمنا العربي صلة وثيقة بالاستاطيقا. فالأسلوبية الجديدة-
كما قدمها هو إلى النقد العربي- تجري على غاية استاطيقية عامة تداخل العمل الأدبي
كله وتجلي روح الإنسان فيه. ([2])
وكانت نظرية كروتشه الأساس الذي أقيمت عليه فكرة الأسلوبية في المطابقة بين اللغة
والإدراك الحدسي، أو ما كان يؤثر أن يسميه عبدالبديع الإدراك الفطري الذي هو ضرب
من المعرفة يدخل فيه الحسي والعقلي معا- يدخل فيه رؤية الطفل للأشياء التي يراها،
كأن يرى العصا حصاناً مثلاً، ويدخل فيه الرؤية التجريدية التي لا ترى الأشياء إلا
خطوطاً وألوانا، ويدخل فيه الرؤية الأسطورية كأن يرى عابد الشجر في الشجر كائناً
إلهياً تتجسد فيه قوى خارقة للطبيعة، كما يدخل فيه الرؤية العقلية الخالصة التي لا
ترى الشجرة إلا جنساً من فصيلة ما، وهكذا. وهو إدراك منزه عن الأغراض العملية، ليس
كإدراك الحطاب للشجرة التي لا يرى فيها غير وقود ينتفع به، أو إدراك الذئب للشاة
التي لا يرى فيها غير طعام يسد حاجته. هذا الإدراك الفطري لا وجود له إلا في
اللغة، ومن هنا كانت مطابقة كروتشه بين علم اللغة والاستاطيقا. فاللغة التي ينطق بها
الإنسان لم تنشأ إلا من إدراكه الفطري للأشياء.
وينضاف إلى ما قدمه كروتشه للأسلوبية في
مجال علم اللغة والاستاطيقا، ما طرحه سوسير في مجال علم اللغة كذلك من أفكار،
وخاصة ما لفت إليه مِن نبذ الوهم المرجعي- كون اللغة تعبيراً عن الواقع الخارجي أو
مجرد تسمية للأشياء. إنما هي علاقة بين الصورة اللفظية والمفاهيم الذهنية لاغير،
ومن ثم استبعدت الحقيقة الخارجية من مجال البحث.
هنالك أيضاً علم الإنسان
"الأنثروبولوجي" والرمزية، وهي الفلسفة التي ترد كل شيء إلى الإنسان في
علاقته الحميمية بالأشياء: علاقة الإنسان بالأشياء ليست علاقة فاترة تقوم على
الجانب العملي الهزيل، بل هو يحبها أو يكرهها أو يخشاها ويرهبها إلخ. هو يسمي
السماء سماء، لا ليدل على أنها مجرد سقف أو غطاء للفضاء الذي يليه، بل ينظر فيها
إلى معنى "السمو" (الذي هو الأصل الاشتقاقي لكلمة السماء) والرهبة أو
الارتفاع والتطلع إلى أفق الإلهي واللانهائي إلخ. كذلك حين يسمى العربي السحابة
"غادية" ولا يسميها "رائحة" لأن انتظار البدوي ابن الصحراء
للمطر جعلها جديرة بهذا الاسم، إذ يعنيه منها غدوها وإقبالها عليه بالخير والبشارة.
ثمة إذن روافد مختلفة في التفكير الحديث
استمدت منها الأسلوبية الجديدة. والبحث في الأدب الآن– كما كان يقول لنا الرائد
العظيم– هو في حقيقته بحث فلسفي لغوي.([3])
وقد أفاض صاحب "التركيب اللغوي
للأدب" في شرح الطريقة التي تبناها أحد رواد الأسلوبية الجديدة الكبار، وهو
ليوشبتزر، الذي كان من الروافد الأساسية في تفكير لطفي عبدالبديع. وطأ شبتزر سبيل
الأسلوبية الأدبية بما رامه من بحث الخصائص الأسلوبية للعمل الأدبي والجمع بين
دراسة الأدب واللغة خلافاً للمعهود من الفصل بينهما. وقد أجمل منهجه في جملة من
النقاط منها أن الأسلوبية ينبغي أن تتخذ من النص نقطة انطلاق للبحث دون أن ترجع
إلى جهة قبلية من جهات النظر خارجة عنه. وهو في هذه النظرة ربيب المفكر الاستاطيقي
كروتشه في إبطال دعوى تاريخ الأدب في تصنيف الأدب إلى اتجاهات مختلفة من
رومانتيكية وكلاسيكية وواقعية إلخ.
وأهم ما في المنهج من إجراءات، وهي
النقطة الثانية، النظر إلى النص باعتباره كلاّ مركزه روح الخالق الذي يعد مبدأ
التماسك الداخلي فيه. يشبه شبتزر ذلك بالنظام الشمسي الذي تنجذب إليه سائر الأشياء
التي تدور في فلكه، فكل جزئية في العمل الأدبي ينبغي أن تفضي للتوغل إلى مركزه،
لكونها تتكامل مع سائر الجزئيات فيه. ورب جزئية قد يتوصل المرء من خلالها إلى
مفتاح النص كله.([4])
وهو ما يقرره لطفي عبدالبديع في موضع آخر حيث يقول:([5])
ليس المعنى الكلي مجموعاً لجزئيات متناثرة في العمل الأدبي، وإنما هو الأفق الأخير
الذي تنتهي إليه الدلالات اللغوية في السياق.
كان لطفي عبدالبديع أول من مكن في
بلادنا من النقاد لفكرة الوحدة في القصيدة العربية التي دأب النقاد من قبله زمناً
طويلاً على الكلام عن تفككها وافتقارها إلى التماسك وإمكان أن يختل ترتيب أبياتها
دون أن يؤثر ذلك شيئاً على آفاق المعنى فيها، على نحو ما رأينا مثلاً في انتقاد
العقاد لشوقي. ولكن منطلقات عبدالبديع كانت شيئاً مختلفاً عن منطلقات النقاد
السابقين الذين أسبغوا صفة الوحدة على بعض القصائد دون بعض، لأن تعريف القصيدة
عنده داخل فيه عنصر الوحدة أو ما سماه التكامل، فهي صفة لا محيد للقصائد عنها، بل
كل قصيدة هي بالضرورة متماسكة مترابطة الأبيات. يقول: "القصيدة بناء يتركب من
العناصر والقوى التي تتظاهر على نحو يتم فيه تكامل المعاني الشعرية المتبلورة في
حقائق لغوية، فالعالم الذي تتألف منه القصيدة عالم متجانس تتلاقى أفكاره وتتعاقب
في حركة مطردة."([6])
ويترتب على ذلك أنه ليست القصيدة العربية
وحدها هي التي تتصف بصفة التجانس، بل يصدق ذلك أيضاً على غيرها من قصائد الشعر
الإنساني في كل اللغات ولكن الذي يجعل قصيدة تختلف عن أخرى في هذا المضمار أن
طبيعة العلاقة بين الأفكار تختلف باختلاف أنواع الإدراك الذي يسيطر على العالم
الشعري فيها.
إن هذا هو ما جعل الرائد العظيم يصرف
مجهوده النقدي كله– أو جُلّه– إلى البحث عن العالم الاستاطيقي الذي يتمثل في
القصائد. وكان هذا الاتجاه مبكراً في حياته، على الأقل منذ أن كتب بحثه عن
"التكامل في القصيدة العربية" في الكتاب الخاص بتكريم طه حسين في عيد
ميلاده السبعين، ورأى فيه أن الشعراء إنما "يبحثون عن الوجود عن طريق التعبير
الشعري المتكامل، بحيث يجمع الشاعر في القصيدة بين الحيرة والطمأنينة ويؤلف بين
الألم واللذة ويزاوج بين الأسى والبهجة."[7]
وكان هذا الرأي منه دفاعاً عن القصيدة العربية في وجه من نظر إليها في ضوء ما سموه
الأغراض الشعرية التي ترتب على القول بها رؤية القصيدة على أنها أجزاء متباينة
يخالف بعضها بعضاً، من النسيب والمدح ووصف الناقة إلخ. وهي النظرة التي قام عليها
النقد العربي قروناً طوالاً، فعيب على شعراء مثل جرير وأبي نواس وأبي تمام
والمتنبي ما سماه النقاد سوء المطالع، خصوصاً في قصائد المدح، كقول المتنبي في
مطلع قصيدته إلى كافور:
كفي بك داء أن ترى
الموت شافياً وحسب المنايا إن يكنّ
أمانيا
وإن
كان إنما يوجه الخطاب إلى نفسه وليس إلى الممدوح، وقول أبي نواس الذي قالوا فيه
إنه أساء أدبه أو إنه من قبيح ما وقع له، يمدح بعض بنى برمك وقد بنى داراً:
أربع البلى إن
الخشـوع لبـاد عليك وإني لم أخنك ودادي
لقد نظر النقاد القدماء إلى الشعر العربي
تلك النظرة التي هونت من شأنه حين لم تفرق بينه وبين سواه من الكلام، فلم يروا لغة
الشعر غاية في ذاتها، بل رأوها كلغة الكلام التي يتم بها التفاهم في أمور المعاش
شفافة تنم عن معانيها التي هي واسطة إليها ليس غير. وبذلك لم ينجل النسيب عندهم أو
المديح عن عالم آخر- عالم شعري خيالي يتوخاه الشاعر ليس النسيب فيه أو المديح أو
غيرهما إلا رموزاً إلى آفاق أخرى يجعلها الناقد الاستاطيقي غايته وهو ينظر في
الشعر.
إن لغة الشعر تختلف عن لغة الكلام التي
تحقق غاية عملية أساسها الإيصال أو التفاهم بين المتخاطبين. وإنما الشعر مرادف
للوعي الجمالي، والإنسان فيه إنما يركز ذاته على وجوده الإنساني.([8])
واللغة الشعرية تختلف عن غيرها من حيث إن كلماتها ترقى إلى المستوى الاستاطيقي
الذي لا يبلغه سواها.([9])
في اللغة العادية، يدير المتكلم كلامه فيها على حكم المعايير والأغراض العملية
التي يستوجبها موقف بعينه، أما الشاعر فليس في عمله استعمال اللغة، إذ الشعر ليس
بسبيل الأمور العملية وإنما هو نظرة ورؤية.[10]
إن النظرة النقدية القديمة القائمة على
تجزئة القصيدة إلى أغراض، إنما تعلي من شأن بعض أجزائها– وهو المديح مثلاً– على
حساب سائر الأجزاء، أو بعبارة أخرى: تدفع بعضها إلى الهامش لصالح ما يتصل بالغرض
العملي المباشر الذي– إن نحن توخينا في الشعر قيمته الجمالية– لا علاقة له بالشعر
مطلقاً.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التعدد الحق
في القصيدة يقتضى أن يكون بين عناصرها حوار، كحوار الأضداد الذي رآه فيها لطفي
عبدالبديع، تأكيداً للفكرة الديالوجية، لا أن يخضع بعضها لهيمنة بعضها الآخر
لترسيخ المنولوجية. هذا إذن وجه من وجوه رد الاعتبار للقصيدة العربية.
ومما أكد في نقدنا القديم هذا المعنى من
تهميش بعض أجزاء القصيدة لصالح بعضها الآخر، تلك النصوص التي صارت معالم أساسية
وركائز محورية فيه يتناقلها النقاد حتى صارت جزءاً راسخاً في التفكير النقدي
القديم ونهجاً لاحباً يسير عليه السائرون. من ذلك قول ابن قتيبه: إن بعض أهل العلم
يقول إن مقصّد القصيد إنما ابتدأ فيه بذكر الديار والدمن والآثار فشكا وبكي وخاطب
الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها ... وألم الوجد
والفراق وفرط الصبابة ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستدعي به إصغاء
الأسماع إليه إلخ.([11])
ومقتضى هذا القول اعتبار ما كان مقصوراً
على المديح في القصيدة جوهرياً وما عداه من النسيب ثانوياً. وفي هذا إغفال للحقيقة
الفنية للقصيدة، وإلا "فالنسيب والمديح شقان لجسم واحد: هذا يمثل الزمان في
مستقبله وذلك يصور الزمان في ماضيه، والإنسان الممدوح مركز لعالم ينتقل إليه
الشاعر، والإنسانة المحبوبة مركز لعالم ينتقل منه الشاعر. وما الأطلال والدمن
والناقة إلا حقائق رمزية شعرية في العالم الشعري الذي يدركه الشاعر ليعبر من خلاله
عن الأسى والحيرة والقلق. وما سعاد وليلى ونعمى إلا معالم في طريق الحياة التي
تصورها القصيدة".([12])
وقد ظهرت في نقدنا الحديث نزعة استهجان شعر
المديح في القصيدة العربية القديمة، جاءته من نفس الوجه الذي برزت منه فكرة
الأغراض، وهى إغفال القيمة الجمالية للشعر وتنزيهه عن الغاية العملية وجعله كسائر
الكلام. ينبري صاحب الرؤية الاستاطبقية في الفن للدفاع عن القصيدة القديمة بقوله:
لم يزل المتأففون من النقاد والمتأدبين ينحدرون بكل ما جاء من الشعر على جهة
المديح لأنه مديح. والعطاء في الشعر عارض اجتماعي يغاير قدرة الشاعر أو عجزه وجودة
الشعر أو رداءته. وشأن العطاء كشأن كل جزاء لا يعاب صاحبه لأنه يجازى به.([13])
وهو لذلك ينبهنا إلى أن الذين عابوا المديح وجعلوه من قبيل الأسطورة السوداء في
جبين الشعر العربي، قد نسوا أن الحياة الإسلامية كانت تقوم على الرجال، ولذلك كان
التأريخ في الإسلام تأريخاً للحوادث والرجال معاً لا يتم إلا بهما.([14])
وكما كانت المحبوبة، وغيرها من العناصر
الشعرية في القصيدة، لا تعبر عن واقع في حياة الشاعر، وإنما هى أفق شعري يتسامى
إليه، كذلك الممدوح في القصيدة، ليست العبرة بصفاته التاريخية، وإنما "العبرة
بالقيم الشعرية التي تتألف منها صورته المثالية". الممدوح الذي قصده ابن دراج
القسطلي– مثلاً– وهو خيران العامري حاكم المرية، غير خيران الذي يركض في قصيدته
التي مدحه بها ويمثل الأفق الذي ينتهي عنده اليأس وتنكشف الغمة ويضيء العالم
الشعري بعد ظلامه، كما تطّرد النجاة من المأساة اطّراد الخير في خيران.([15])
وهذا كلام سبق به رائد النقد الاستاطيقي كلام أصحاب النقد الثقافي الذين نظروا إلى
الهجاء والمدح باعتبارهما سلاح الثقافة في ترسيخ دعائمها في وجه من يريد التمرد
عليها.([16])
إن فكرة الأغراض الشعرية التي تمسك بها
النقد القديم، إنما كانت تنظر إلى المعنى العملي الضيق– كما ذكرنا– لهذه الأغراض،
دون نظر إليها من ناحيتها الفنية وهي في الحقيقة– كما يقول عبدالبديع– ليست سوى
وسائل ومجالات فيها يصور الشاعر الحقائق الشعرية. الحقائق الشعرية هي طريق القصيدة
وسبيل الشعر. وهو ما نذر صاحب "الشعر واللغة" نفسه لترسيخه في تحليل
القصائد التي تعرض لها. الحقيقة الشعرية تعفّى على الحقيقة العملية. القتل مثلاً
في قصيدة ابن عمار ليس سلباً للأعمار أو إزهاقاً للأرواح وإنما هو إثمار الرمح من
رءوس الكماة:[17]
أثمرْت رمحك من رءوس
كماتهم لما رأيت الغصن يعشق مثمرا
إن
ذلك معناه ببساطة أنه يجب أن تتجه عقولنا ونحن نقرأ الشعر إلى ما تبادر إليه
حواسنا ونتلقاه ساطعاً في الكلام الشعري، وهو الإدراك الاستاطيقي المباشر، وألا
تنحصر عقولنا في معان أخرى نتلقاها من حياتنا اليومية التي تمتهن إدراكاتنا
للأشياء فتعمى عنها.
المعنى في الشعر قوامه من المعرفة الحية
التي يحتضن فيها الشاعر العالم ويدركه إدراكاً حسياً مباشراً، كأنه يحيا في
الأشياء ويدرك معها "المعاني التي تغمرها". في شعر المخبل السعدي–
مثلاً– تشبّه المرأة بالبردية في قوله:
بردية سبق النعيم
بهــا أقرانها وغلا بها عظم
إذا
انتزعت كلمة "بردية" من سياقها، كان معناها هذا الجنس من النبات
والأوراق ولكنها في السياق الذي ذكرت فيه– هنا– تدل على المعنى الفطري الشعوري
وتصوره، دون أن تقتصر على إثارة الانفعال بها عند السامع، فهى "كالطفولة
تتلقى الماء الذي به كل شيء، والشاعر لا يعرفها إلا وجهاً للطفولة التي تنمو ويزيد
النعيم في شبابها لتستمكن، حتى إذا نظر المحب إلى وجهها رأى صحيفة من كتاب الحياة:
وتريك وجهاً كالصحيفة
لا ظمآن مختلج ولا جهم"([18])
ينزع لطفي عبدالبديع في رؤيته للنصوص
منزعاً لا يتميز فيه عالم النصوص عن عالم الحلم الذي لا يتميز بدوره عن عالم
الواقع. الحلم هو الشعر، كما يقول جان بول: "إذا كانت اليقظة هي النثر، فإن
الحلم هو الشعر، والجنون هو النثر الشعري". وهو يقصد– كما يقول عبدالبديع–
حقيقة الحلم الذي يعترى النائمين، وليس الخيالات الحالمة التي تعتري أصحابها في
غير النوم". فالحلم– عنده– ينفي العالم ولياليه وأشجانه ويفيء علينا عالماً
ثانياً بالصور التي أحببناها وفقدناها، والمسارح التي تضيق معها أرضنا الصغيرة.([19])
وفي كل ذلك يحطم الشاعر الحقيقة الواقعية ويقيم بدلاً منها حقيقة شعرية ذات
طبيعة حالمة تتلاقى فيها الكائنات المتفرقة– تتلاقى على صعيد واحد، هو صعيد الفن
والجمال.
الشاعرية– كما يقرر عبدالبديع– تكمن في
إعطاء الدارج طابع الغامض والمعلوم صفة المجهول والنهائي صفة اللانهائي.
في تحليله قصيدة الحادرة، وهو شاعر جاهلي
مقلّ، ينكر أن تكون العلاقة بين ما ورد ذكره في القصيدة من عناصر كالسحابة
والجنازة والماء، من قبيل العلاقة الاستطرادية، أو تداعي المعاني، وهو قول لا
يساويه في البطلان إلا القول بافتقار القصيدة إلى وحدة الموضوع، أو القول بالوحدة
النفسية لا وحدة العالم الشعري، وهي الوحدة التي يخلعها أصحابها على قصائد بعينها
ثم يعجزون بعد ذلك عن إجرائها على سائر الشعر، كما يقول عبدالبديع.([20])
هذه النظرة لا يتأتى لها أن تفتح مغاليق الشعر على تباين منازعه الاستاطيقية
واختلاف منابعه الروحية فـ"سمية" المحبوبة التي ظهرت في أبيات النسيب:
بكرت سمية بكرة فتمتع وغدت غدو مفارق لم يربع
مطوية
كذلك في أبيات القصيدة الأخرى التي لايبدو بينها وبينها ارتباط، إذ هي تمتد إلى كل
شيء في القصيدة كالأبيات التي جاء فيها ذكر السحابة مثلاً، ومنها قوله:
بغريض سارية أدرته
الصبــا من مـاء أسجر طيب المستنقع
ظلم البطاح، له
انهلال حريصة فصفا النطاف له بعيد
المفلــع
لعب السيول به فأصبح
مــاؤه غللا تقطع في أصـول الخروع
فسمية
أخت السحابة وحليفتها، فهي "مثلها ثرة تفيض على الكون الإنساني معاني الحب
والحنان التي تسيل منها آيات الرحمة ... وتنزل مقلتاها منزلة الينبوعين اللذين
يفيض منهما الدمع، كما ينزل الحديث منزلة الماء الذي يروي عطش الشاعر إلى الحب:
وبمقلتي حوراء تحسب
طرفهـا وسنان حـرة مستهل الأدمـع
وإذا تنازعـــــك
الحديث رأيتهــــــــا حسناً تبسمها
لذيذ المكــرع
وسمية–
كذلك– تشارك السحابة في صفتها الكونية، من جهة أن كلتيهما صارت زمناً محضاً،
فالسحابة لا تذكر إلا بصفتها: "سارية"، أي تسري في زمن بعينه، وهو
الليل، وسمية لا يكون الحديث عن فراقها وتلاشيها الذي يشبه تلاشي السارية وتقطع
مائها في الأرض، إلا ملابسة للزمان الذي تداخله وتسري فيه. وهذا يظهر في قوله:
بكرت، وغدت. فهي لا تنفصل عن البكرة ولا تنشق عن الغدوة. كذلك نرى الشاعر يسبغ– في
سياق ذكره المحبوبة– صفة من صفات السحابة على النظرة التي تزوّد بها منها:
وتزودت عيني غـداة
لقيتهـا بلـوى البنينــة نظـرة لم
تقلـــع
حيث
يقال: أقلع السحاب وأقلع المطر. وإنما هو الفن أو أفق الشعر الذي يجمع الأشياء
المتباعدة في صعيد واحد.
حقائق الواقع إذن غير حقائق الشعر، فهي حين
يقذف بها في أفق الفن تكون ظواهر لغوية ليس غير، فيها تذوب الحدود التي كانت
بينها– تلك الحدود التي اعتدناها في العالم الواقعي. ومن ثم نستطيع القول– مع
كروتشه: إن اسم المحبوبة الذي ينادي به الشاعر في أول القصيدة، يصبح أنشودة من
الأناشيد تحمل في طياتها لحن القصيدة بأسرها.
وإذا كان الشاعر قد عقد هذه الوشائج بين
السحابة والمحبوبة، فإن هذه الحميمية وهذا الدفء الذي يظهر دائماً في الفن، هو ما
تستهدفه البلاغة القديمة بالفصم، وكأنها "اسم الأب" في تفكير أصحاب
التحليل النفسي الذي يقضي بفصم العلاقة بين الأم والطفل، بإصرارها– أعني البلاغة
القديمة على تباين الشيئين وتباعدهما وترسيم الحدود بينهما، فالمحبوبة شيء والسحابة
شيء آخر. سلاح البلاغة الذي تستعمله هنا هو القول بالتشبيه، حتى لا يذوب شيء في شيء
وحتى لا يحتضن شيء شيئاً. يقول لطفي عبدالبديع في سياق كلامه عن بعض القصائد التي
تناولها بالتحليل، وهو يتحدث عن الرؤية الشعرية:([21])
لقد أحالت البلاغة العربية هذه الرؤية إلى طريقة من طرق القياس حين تشبثت باثنينية
الطرفين في الصور الشعرية تشبيهاً كانت أو استعارة، وجعلت الغاية منها إيضاح
المعنى القائم في المشبه والمشبه به وتبيينه. والأمر على خلاف ذلك فالشاعر يحطم
الحقيقة الواقعية ويقيم بدلاً منها حقيقة شعرية أعلى منها وأكمل، فيسمي الأشياء
بغير أسمائها. وفي تسمية الأشياء بأسمائها– على ما يقول مالا رميه– قضاء على ثلاثة
أرباع القوة التي في القصيدة.
ولايزال صاحب "الشعر واللغة"
آخذاً فيما هو فيه من رفع منزلة الشعر والدفاع عنه في وجه البلاغة القديمة وشروح
القدماء وعجزهم عن احتضان الظاهرة الشعرية في بعدها الاستطيقي. البلاغة مشدودة
أبداً إلى الواقع– كما قدمنا– ولا ترى الشعر إلا انعكاساً له. وجهاز المفاهيم التي
تلجأ إليها هو في مجمله قاصر– لذلك– عن أن يقع من الشعر باعتباره فناً على شئ ناجع.
ومن الحيل التي يستعينون بها القول
بالمبالغة. إذا قال الشاعر مثلاً:
ورمل كأوراك العذاري
قطعته ......
... .....
قالوا:
"قلب ذو الرمة العادة والعرف في هذا، فشبه كثبان الأنقاء بأعجاز النساء. وهذا
كأنه يجري مجرى المبالغة".([22])
ولكن القول بالمبالغة يقود إلى التجني على الرؤية الشعرية التي تقرر الأشياء على
النحو الذي تقرره دون غيره وترى فيه الحقيقة التي لا تعلوها حقيقة.([23])
أو حين يقول عن المحبوبة:
تريك بياض لبتها
ووجهـا كقرن الشمس أشرق ثم زالا
أصاب خصاصه فبدا
كليلاً كلا، وانغل سائره انغلالا([24])
يفسرونه
بقولهم: العرب إذا أرادوا تقليل مدة فعل أو ظهور شيء خفي قالوا: كان فعله كـ"لا".
وربما كرروا فقالوا: كلا ولا،([25])
وهذا ما لا يوافق عليه صاحب النهج الاستاطيقي في فهم الشعر، فـ "لا" في
شعر ذي الرُّمّه ليست إياها في غيره من الكلام، ذلك أن للشاعر نهجاً مختلفاُ ينبغي
أن نرجع إليه لنتبين أن "لا" هذه تحمل آثار السحاب الذي تمزق وتخللته
الشمس ففعلت فيه فعلها في تصدعه وتشققه، كفعل المحبوبة في فؤاد الشاعر الذي يجعل من
النفي سلاحه في مواجهة هذا الواقع. لكن "المقولات النحوية والبلاغية التي صب
فيها أصحابها الحروف والكلمات، غلبت في تفكير الشراح على ما عداها، ولم تستطع
مسايرة الشعر والتحليق معه في الآفاق البعيدة.([26])
وقد دأب أصحاب البلاغة على النظر إلى ما في
الشعر من استعارات وغيرها من صور البيان وضروب البديع على أن ذلك كله محض زينة ليس
غير تضاف إلى التراكيب، وهو ما يتنافى مع النظر الاستاطيقي الذي لا يرى في ذلك إلا
أنه "المادة الشعرية ذاتها" يفجرها الشاعر من اللغة، إذ يتوخى تكثيف ما
فيها من وسائل تعبيرية تمجد ما في الطبيعة الكبرى ليستخرج ما في باطنها من أسرار.([27])
وقد جرهم ذلك إلى الوقوف من الصنعة اللفظية
موقفا مالوا فيه– في كثير من الأحيان– إلى الاستهجان، وهو ما يقف منه النقد
الاستاطيقي موقف الرفض دفاعا عن الشعر. في تحليل قصيدة ابن دراج القسطلي مثلا تصدى
لذلك صاحب "الشعر واللغة"، فقال إن الصنعة اللفظية التي عيب شعره من
أجلها ليست إلا صنعة الشاعر الذي يتخذ من الكلمات أصدقاء له. ففي الكلمة يحظى
الشاعر بالحقائق التي يمتلئ فيها تأمله ويكتمل. حين يقول ابن دراج:
إليك شحنا الفلك تهوي
كأنهــا وقد ذعرت من مغرب الشمس
غربان
على لجج خضــــر إذا
هبت الصبا ترامــــــى بنا فيها
ثبيـــر وثهــلان
مواثل ترعـــــــى في
ذراها مواثلاً كما عبــــــــدت في الجاهليــــــــــة أوثان
وفي طـــــي أسمال
الغريب غـــــــرائب سكنّ شغاف القلـب شــيب وولدان
ماذا
عسى يفضي إليه التجانس بين "مغرب" و"غربان" في البيت الأول،
و"مواثل" و"مواثلا" في البيت الثالث، و"الغريب"
و"غرائب" في البيت الرابع، في هذا الشعر الذي يأتي في سياق نكبة الأندلس
التي ظلت تنمو في وعى الشعراء وألقت على أشعارهم ظلال المأساة التي لم تزل تتفجر
في كلماتهم بمعاني الرثاء والخراب وتأبين الحياة في الفردوس المفقود، على ما يقول
عبدالبديع؟ ماذا عسى يفضي إليه هذا التجانس في تلك القصيدة التي يراها صاحب
التحليل رجفة تتراءى فيها الكلمات كائنات مذعورة تتألف منها المأساة ولا نرى فيها
إلا أشباح الهلاك تدفع الفاجعة إلى ذروتها؟ تنهب الغربان ما في الفلك من طمأنينة
وتشهد في مغرب الشمس موت النهار، كما تتسعر اللجج الخضر ويتسلط ثبير وثهلان على
الصَّبا فتحن بالزلزلة التي تمسخ طبيعتها، فما حولها إلا قبور تجري بها الأمواج
المتلاطمة.([28])
وأنا هنا لا أستعمل غير ألفاظ عبدالبديع لكثافة شاعريتها في ذاتها، وكأن الشعر لا
يصل إليه إلا مثله من الشعر. وهذا شيء ينبغي وضعه في الحساب حين يكون كلامنا عن
النقد الاستاطيقي.
إن اللغة وقد جاءت لتمثيل هذا العالم الذي
يتكون فيه كل شيء بلون الموت وهو ينبعث من الهاوية، تتحفى بالتداخل وتذهب فيه كل
مذهب. فما الجناس إلا صورة من صور الضلال في هذا البحر اللجي الذي لا يعرف ورده
ولا صدره. اعتبر ذلك بالغربان التي يتطاير فيها الذعر، ومغرب الشمس الذي يتغشاه
الاحتضار، ثم الغريب الذي يتهالك فيه النازح عن وطنه. ووصف الفلك بالمواثل الأولى
ولجج البحر بالمواثل الثانية إنما هو ضرب من عقد المماثلة الأبدية بين شخوص الموت
العمياء التي تبث الخوف من المجهول وتشيع الهلاك في كل ناحية وهي تقوم وتسقط وتعلو
وتهبط ... إلخ.([29])
والطباق، هو من أهم الصور البديعية التي
ربما ضاق بها التأثريون من النقاد أو الذين يلهجون بالطبع وما يجري مجراه من القول
بصدق العاطفة، معلم من معالم الشعر العربي مثلما هو في الأداب الأخرى، ما لبث أن
قوي على أيدي المحدثين من الشعراء. وكان أبوتمام إماماً لهذا المذهب بحكم ما كان
هناك من تضاد بين حقيقة الحياة المادية الفضفاضة و..... الثابت في الروح الإسلامية،
كما يقول عبدالبديع. وكان من آثار تلاقي هذه التيارات المتخالفة احتضان الأشياء
المرئية أو الحسية في الكون والعالم والاعتداد بها للولوج منها إلى عالم الأشياء
الخالدة ... "وكان من ذلك أيضاً البحث عن الحياة والهرب منها في آن واحد مما
تردد صداه في شعر الغزل وشعر المديح"([30])
على أن صاحب "الشعر واللغة" لا
ينفك يرى هذا الطباق في كل الشعر العربي تقريباً ويتبينه ويلفت إليه الأنظار على
نحو دائم، بحيث كان الجمع بين المعاني المتقابلة أصلاً من أصول الفلسفة الجمالية
في الشعر العربي يتحكم في المعاني الشعرية الكبرى كما يتحكم في المعاني الصغرى ..إلخ.
([31])
والأمثلة على ذلك في كتابه كثيرة. وفي تحليله نونية عروة بن حزام، كانت القصيدة
مركباً من التقاء الأضداد، فللحب فيها وجهان وتلوح الأنانية، أو الأثرة، كما يظهر
الإيثار، ويتجاور الأمل واليأس، ويندفع فيها الواشي كما يُستدعى إليها العراف.([32])
وهكذا دأب ناقدنا في رؤية ما ينطوي عليه الشعر من ثنائيات، بحيث يكون باستطاعتنا
أن نقول إنه كان أقدم من قال في النقد العربي الحديث بالتقابلية الثنائية binary
opposition التي ما فتئ
أصحاب المناهج الحديثة من البنيويين خاصة يرددونها في تحليلاتهم في فهم الشعر
والأسطورة وغيرهما.
ولايزال الناقد الاستاطيقي مسدداً سهامه
حيثما كانت أهدافها في القديم أو في الحديث، فالقول بالمذاهب الأدبية
كالرومانتيكية والواقعية وغيرهما، وهو القول الذي دبجت فيه الكتب والمقالات في
النقد العربي الحديث، لا يختلف عن القول بالأغراض الشعرية في القديم من حيث يضرب
صفحاً عن حقيقة الشعر الجمالية، فلا يجدي- لذلك- شيئاً في فهم الشعر حين ينسبه إلى
هذا أو ذاك مما اصطلح على تسميته المذاهب الأدبية. ومثله في سوء تقدير الشعر القول
بأن القصيدة تعبر عن عواطف الشاعر وأحاسيسه أو صدق مشاعره إلخ، أو القول بشعر
الوجدان، وهو ما فاضت به كتب النقد الأدبي الحديث في بيئاتنا. فالقيمة
الاستاطيقية– على ما يقول أرنولد هوسر ونقله عنه عبد البديع– ليس لها مرادف
سيكلوجي، والتركيب السيكلوجي يمكن أن يوجد في شتى أسس الإنتاج. وما المعلومات
السيكلوجية والظروف النفسية إلا مجرد عوارض تمكن ميلاد العمل الأدبي ولكنها لا
تحتوي المادة التي يصنع منها .. والعمل الأدبي– كما قيل مراراً– قوامه من الكلمات
لا من العواطف، فهو ينتسب إلى منطق اللغة لا إلى الإحساسات والعاطفة والكلمات تدين
بدلالتها الفنية للسياق لا لطابع التجارب التي تنبع منها.([33])
وإذا كان ثمة من يذهب من النقاد إلى أن
الشاعر يسقط نفسه على الكون والطبيعة، وهذا نراه كثيراً في النقد العربي ورأينا
مثله عند كولردج الذي يقول في قصيدته "اكتئاب Dejection"
مما يصف به الطبيعة لا الشعر:
نحن لا نتلقى إلا ما نعطيه
والطبيعة لا تحيا إلا في حياتنا نحن
وما ترتديه من ثياب فرح أو أكفان إنما
هى ثيابنا([34])
فإن
ذلك مما لا مجال له في النظرة الاستاطيقية إلى الشعر، لأن مقتضى ذلك أن الشعر
امتداد لحياة الشاعر والأمر بخلاف ذلك. وإنما يتعامل الشاعر مع ألفاظ يسددها حيث
يشاء الوجود الشعري الذي يعم القصيدة بأسرها.([35])
لقد انبرى صاحب النهج الاستاطيقي– كما قلنا
مراراً– لكل نقد لا يضع في اعتباره أفق الفن في فهم الشعر، فانتقد كذلك ما شاع في
كتاباتنا النقدية التي لا تمل ذكر العلاقة بين الشاعر وشعره– من القول بأن شعر
الشاعر تعبير عن شخصيته، وهو قول العقاد وغيره من النقاد. يقول العقاد مثلاً عن
ابن الرومي: إذا نظرنا في ديوانه وجدنا مرآة صادقة ووجدنا في المرآة صورة ناطقة لا
نظير لها فيما نعلم من دواوين الشعراء.([36])
هذا على الرغم من أن العقاد كان على بينة
تماماً من أن النقد على زمنه كان قد خطا خطوات واسعة في النظر إلى النصوص بمعزل عن
تاريخ أصحابها وحيواتهم. يقول في خاتمة كتابه: "أقمنا أوضح الأدلة المحسوسة
على وحدة المقاييس بين تعبيرات الشاعر وتعبيرات الحياة. ونحسب أننا قد أقمنا هذا
الدليل في وقت الحاجة إليه عند قراء الأدب الغربي بيننا، قبل قراء الأدب العربي
وحده بفرعيه من قديم وحديث. لأننا نعيش في عصر شاع فيه بين كثير من الأوروبيين أن
الشعر شيء بمعزل عن خوالج الحياة ... فإذ كنا قد وفقنا لإظهار الوحدة العامة بين
الشعر والحياة أو بين الفن والحياة كلها، فذلك حسبنا.([37])
ومثل هذا ذكره العقاد في كلامه عن
البارودي، حيث رأى أنه ارتقى في التعبير عن الشخصية هذا المرتقى الرفيع ... إلخ([38])
وهو ما تصدى له عبد البديع عند تحليله شعر الشاعر، داعيا إلى الالتفات إلى اللغة
الشعرية وألا ننسى أن عمل البارودي إنما كان إحياء للرموز اللغوية القديمة التي
عرفتها العربية في عصورها الزاهرة،([39])
ولا وجه للقول إنه ابن عصره إلا من جهة أن يكون المقصود بالعصر "جملة–
التيارات الروحية التي يتقوم بها، لا البعد الزماني الذي يقاس بالسنين والقرون."([40])
ولناقدنا الكبير رأيه الرافض كذلك لفكرة
العصور الأدبية التي ينتقدها في إطار مذهبه الجمالي. وهو يرى أن الشعر لا يتطور
تطور الأنواع البيولوجية التي تتدرج من الأدنى إلى الأعلى ومن البسيط إلى المركب،
بل هو تيار متدفق يفضي بعضه إلى بعض ولا يتقيد بغير العبقرية التي تقتنص في اللغة
الوجود وتأسره، "وهو كالفلسفة قديمة وحديثة سواء في المنزلة".([41])
أما فيما يتصل بقضية التأثير والتأثر التي
استفاض تداولها في النقد الأدبي، فكلامه في ذلك يصله– باقتدار شديد– بمعمعة
التفكير النقدي الحديث، شأن كلامه في غيرها من القضايا. يقول في سياق كلامه عن عبد
الرحمن شكري: لم ينته النقد من الكلام فيه إلا إلى البحث في العرض دون الجوهر وتسقُّط
أخباره من هاهنا وهاهنا والتعويل على أشياء مؤداها أنه نقل عن فلان وفلان من شعراء
الإنجليز والفرنسيين والألمان.([42])
وهو يرى أن ذلك لا يقدم للنقد
الأدبي شيئاً، فكل شاعر صغيراً كان أو كبيراً لابد له من أسباب يمد بها إلى تجربته
الشعرية حتى تستوثق وتستحكم. ولو أخذنا في تتبع مصادره على طريقة أصحاب السرقات الأدبية
لما بقي لشاعر شيء. وعماد هذا القول يرجع إلى ما كشفت عنه النظرية الحديثة في
النقد الأدبي مما صار معروفا للكافة من القول بالتناص الذي هو أمر لا محيد عنه،
حيث تجمع النصوص في إهابها مالا يحصى من سواها من النصوص.
ويتصل بذلك ما قيل في مسألة علاقة الشعر بالأسطورة
وتصحيح ناقدنا القول فيها، إذ الأسطورة مادة للشعر شأنها شأن سواها من المواد،
يأخذ منها الشاعر أو يدع، ولكن الشأن في الشعر للبناء الذي يقيمه الشاعر. أما
العناصر الأولية فإنها تنزل "منزلة الهيولي التي لا تعدو أن تكون قابلاً
للصورة" التي يقوم عليها التركيب، وهي المعول عليه في بحث الشعر."([43])
هما مسألتان أساسيتان في تفكيره، إذا
استقام لنا استيعابهما على الوجه اللائق، أمكن أن نخطو منهما– على نحو تلقائي– إلى
سائر المسائل النقدية التي تصدى لها. أما المسألة الأولى، فهي النظر إلى القصيدة
نظرتنا إلى البيئة الحاضنة التي يشيع المناخ الواحد في جميع أجزاء المكان الذي
ينطوي عليها، فكل تفصيلات القصيدة تمضي في الدوران حول عالم شعري واحد لا ينجلي
لرؤيتنا إلا بالتلطف في الفهم ومعاودة النظر. وقد أشبعنا القول في ذلك، ولكن نضيف
إلى ما مضى أن في بواكير نقدنا الحديث ما يعضد رؤية النقد الاستطيقي، وإن لم تكتمل
فيه مقومات النظرية أو أسسها الفلسفية. وربما كان الشاعر عبدالرحمن شكري– عبقري
الشعر العربي كما يصفه عبدالبديع([44])
هو النموذج الذي اكتملت عنده رؤية القصيدة على النحو الذي يكاد يتطابق مع الرؤية
التي يقدمها عبدالبديع، ومن ثم كان إعجابه به الذي لا يكاد يكون له فيه نظير.
يرى شكري وظيفة الشاعر في إقامة العلاقات
والروابط بين الأشياء والحقائق واستخراج الصلات المتينة الصادقة بينها التي تقصر
أذهان العامة عن إدراكها. ويتطرق إلى الكلام عن دور القارئ في استخراج هذه الصلات،
وتفاوت القراء في ذلك بحيث ربما التقط بعضهم في الشعر ما يناسب ذوقه ثم ينبذ ما
عداه من غير أن يبحث عن السبب الذي جعل الشاعر ينظم في قصيدته هذه المعاني.
والقراء يعدون البيت وحدة تامة وهذا خطأ عظيم، فإن قيمة البيت في الصلة التي بين
معناه وبين موضوع القصيدة لأن البيت جزء مكمل ولا يصح أن يكون البيت شاذا خارجاً
عن مكانه من القصيدة بعيداً عن موضوعها. لا يصح أن نحكم على البيت إلا بالنظرة
المتأملة الفنية، فينبغي أن ننظر إلى القصيدة من حيث هى شيء فرد كامل لا من حيث هى
أبيات مستقلة، فإننا إذا فعلنا ذلك وجدنا أن البيت قد يكون مما يستفز القارئ
لغرابته وهو بالرغم من ذلك جليل لازم لتمام معنى القصيدة.([45])
يرى لطفي عبدالبديع أن شكري كان أول من ألم بأن للقصيدة وجوداً يضم أطرافها
وتتناهى إليه معاينها، وأنه دوّن ذلك سنة 1916، ثم لم يتابعه فيه أحد من النقاد
بعده.([46])
ونحن نرى علة ذلك– أعني خلو نقدنا الحديث من متابعة هذه الفكرة التي طرحها شكري–
في أنه لم يوطئ لها التوطئة الفلسفية ولم يمد لها في الدعائم النظرية التي تعنى
بالتفصيلات والتحليلات، بحيث تلهم العقول بعدها متابعتها وتنميتها. وربما كان هناك
أمر آخر لا نفصل القول فيه الآن يرجع إلى الطبيعة التي درجنا عليها من إنكار جهود
السابقين أو التبرؤ منها نزوعاٌ إلى أن نكون أول من يقول بالفكرة دون سوانا وما
يترتب على ذلك من ردم جهود السابقين.
وأما المسألة الثانية الأساسية في تفكير
عبدالبديع، فهى معاداة كل نهج في التفكير لا يرى لغة الشعر مخالفة للغة العادية أو
لغة الكلام، أو بعبارة أخرى يراها مرآة للواقع. وقد كان كروتشه من المنابع
الأساسية لصاحب النقد الاستطيقي، فهو الذي نقض دعوى القائلين بالزخرف اللفظي
والمحسنات البديعية، كما تعرض لإبطال ما جرى عليه النقاد والمؤرخون في الفن من
وصفه بالواقعية والرمزية والموضوعية والذاتية والبساطة والتنميق، ثم ما يردده
النقاد والبلاغيون من القول بالإطناب والإيجاز والترادف والجناس إلى غير ذلك من
أفكار لا تمت للفهم الاستطيقي بصلة. ([47])
ولكنه يختلف عن كروتشه في أنه لا يذهب مذهبه في مطابقة الشعر للنشاط التعبيري
عامة، وإن كان التجديد الذي أحدثه كروتشه في علم اللغة تجديداً عميقاً صار معه علم
اللغة بحيث يطابق الاستطيقا.([48])
وهذا راجع إلى تأثر الرائد الكبير– الذي
مهد سبل التفكير النقدي الحديث أمام باحثينا ونقادنا– بينابيع أخرى كثيرة بخلاف
استاطيقا المفكر الإيطالي، لما طبع عليه من الروح الناقدة المتأملة التي تأخذ من
أفكار المفكرين وتدع، ولكنها تنفخ في جذوتها وقد تشكلها تشكيلاً آخر، شأن كل مفكر
حقيقي، وهو مالم تتهيأ له بيئاتنا.
كان لطفي عبد البديع مثلا فريدا في الإخلاص
للفكر لا تسيغه بيئاتنا الثقافية التي دأبت على الإخلاص للميكروفونات والأضواء
واستكانت لإعجاب البسطاء وأصحاب المطالب الفكرية المتواضعة ووجدت المتعة في ذلك
ولم تجدها في التواصل الحقيقي مع تجارب العقل الإنساني الذي يسير كل يوم بمعدلات
فلكية والاستجابة للتحدي الذي تستجيب له الهمم العالية التي تطمح إلى نهوض بلادها
والخروج من كبوتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق