الجمعة، 17 أغسطس 2018

فصول من زمن مضى وزمن يأتي ( الحلقة السابعة)

(7)
 كان الدكتور مهدي علام ونحن في السنة التمهيدية يقدم لنا نصوصا من اللغة الإنجليزية لنقوم أو يقوم هو بترجمتها، وبعضها كان خطبا أدبية رفيعة الطراز لبعض أعضاء مجلس اللوردات، إن لم تخني دقة الذاكرة. وكانت تنجلي
عن ترجمته هو لها فتهز القلوب. كنا نشكو إليه أحيانا صعوبة النصوص وغرابة ألفاظها. فلا أدري في أي مناسبة قال لنا إنه لا تفوته في اللغة الإنجليزية كلمة واحدة, وإنه قد خالط أهلها عشرين عاما حتى صار في دمه كل شيء يتعلق بالإنجليز حتى ألعابهم وملاهيهم واستثنى من ذلك لعبة واحدة، لعلها كانت "الرجبي". لا أذكر تماما. إن ما أذكره أنهم حين سألوه: لماذا لا تتقن هذه اللعبة وتدخل معنا فتصير إنجليزيا خالصا، فكان رده " والله لا يمنعني عنها إلا شيء واحد: ألا أصير إنجليزيا."
وكنا ونحن في السنة الرابعة- ولعلي هنا أصحح بعض ما جاء في الفقرة التي سبقتني إلى النشر- ندرس مادة النحو فيتولى هو الجانب العملي منها وهو التدريبات النحوية والإعراب والأستاذ عبد الحميد حسن الجانب النظري. كانت محاضرة الدكتور مهدي تمتد إلى السادسة مساء. وكان الذي ينبهنا إلى أن الساعة آذنت بالرنين الرنات الست قدوم الشيخ الفاني عليهما رحمة الله الذي انحنى ظهره وابيض حاجباه، فيستقبله الدكتور مهدي بالترحاب الواجب للشيخ على التلميذ. وكانت المحاضرة تمتد إلى الثامنة مساء، فيكون الوقت ليلا. لم يفوت محاضرة واحدة. ولم تنقص محاضرته عن النصاب المقرر لها وهو مائة وعشرون دقبقة, فأما نحن فكان حالنا حال من امتد به الوقت حتى زاد عن الاحتمال، فنسلم أمرنا إلى الله. في إحدى المرات فوجئنا مرة واحدة ونحن جلوس أمام الشيخ الذي اعتاد أن يقرأ لنا من بعض كتب النحو القديمة بالظلام الدامس يحيط بنا. انقطعت الكهرباء ولم نعد نرى نحن ولا الشيخ شيئا. وتنفست صدورنا الصعداء وقلنا الحمد لله سنأخذ اليوم "إفراج". وتأهبنا لمغادرة القاعة، وإذا بالشيخ يدس يده في جيبه ويصوب آلة صغيرة سطع منها النور إلى الكتاب ومضى في القراءة والشرح. كانت هذه الآلة معروفة في ذلك الزمان بالكشّاف، وقد يسمونها بطارية.
فأما الدكتور مهدي علام فمن نوادره، وكان معروفا بالجواب السريع والرد الحاضر، وكان معنا بعض الزملاء "المنتسبين" الذين التحقوا بالكلية بعد حصولهم على شهادة البكالوريوس أو الليسانس من كليات أخرى، ربما من معهد المسرح. كان خفيف الروح إلا أنه كان كثير الإلحاح على الدكتور بالأسئلة والتعليقات ولا يتحرج من إظهار الإعجاب بنفسه. وفي بعض المرات عقب على كلام الدكتور مهدي، والتفت يمينا ويسارا، وسأل الدكتور أن يطمئنه على صحة ما قال. ولم يكتف بذلك بل ختم كلامه بالقول: "أصل أنا أحيانا غبي". وجاءه الرد السريع الذي أسكته ولم يحر بعدها جوابا: "بل أنت أحيانا ذكي". كان الرد في ذلك الوقت بالنسبة لنا مدهشا نسمعه للمرة الأولى ككل شيء كنا نسمعه من الراحل العظيم. وهنا مناسبة ألتقطها لأذكر أني قابلته مرة وأنا أصعد الدرج في طريقي إلى قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس حيث كنت أعمل في الزمن القديم، في السنة نفسها التي فارقته فيها. كنت قد ظفرت بجائزة مجمع اللغة العربية في تحقيق التراث عام 1981، فهنأني بالجائزة وسأل لم لا نراك بالمجمع، ثم قال "انت كده بقيت زبون سقع للمجمع", وتستوقفني الآن الكلمة "سقع" ولا أدري ما أصلها الذي جاءت منه. لعل أحدا انشغل بها فيأتيني بالرد.

رحمة الله عليهم أجمعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق