الجمعة، 17 أغسطس 2018

فصول من زمن مضى وزمن يأتي ( الحلقة التاسعة )

(9)
ولا يذهب بك الظن إلى أن الفعل "سوّد" من السواد، لكنه من السيادة: أي أن هذا الذهب الأسود جعلنا سادة وجعل لغتنا من اللغات التي اعتُرٍف بها دوليا. هذا صحيح، ولكن ما زلنا نحتاج إلى اليقظة ألا يذهب إلى اليد التي لا تقدّر أنه للتصرف به فيما ينفع الناس. كان لبيد بن ربيعة من الذين عرفوا بالمروءة
وإكرام الناس وتقديم القرى للغرباء وغير ذلك من أخلاق العرب النبيلة، وجعل الإمام الغزالي، رحمه الله، "إفاضة الخيرات" من الفضائل التى عددها لكي يتحلى بها من يريد الكمال. ومعنى ذلك ألا تزهد في المال أن يكون بيدك لتفيض به على أهل الحاجة ولا تجعله في قلبك غلا لازما. فلما كبر لبيد ونفد ماله كان معاوية رحمه الله يرسل إليه بالإبل الكثيرة، ويقول لأصحابه: أعينوا أبا عقيل على مروءته. كان الناس قديما يجدون رضا أنفسهم في هذا وتغمرهم السعادة من أجل إسعاد الناس فكيف انقلب بهم الحال، حتى ضاقت بالجميع أحوالهم.
وأعود إلى شيخنا رضوان الله عليه ورحمته وغفرانه في درس آخر من دروس أخلاقه التي لا تنتهي. كان من بين أعضاء لجنة الجائزة التي تقدمت إليها بكتابي المذكور، أو بعبارة أدق بتحقيق كتاب ابن عصفور، الأستاذ الدكتور محمد بديع شريف الذي قام بتحقيق ديوان ابن المعتز، وهو شيخ عراقي كان قد ناهز السبعين حين لقيته في بيته بمصر الجديدة بعد فوزي بالجائزة. وهو من تلامذة الأستاذ عبد السلام هارون. استقدمه الأستاذ للعمل خبيرا بالمجمع بعد أن علم أن الرجل قد ضاقت به بلاده لأمور لا علاقة لها بالعلم. وفوجئت به يخبرني أنه- الدكتور بديع- اعترض على منحي الجائزة وكتب في تقريره أني انتقدت في بعض تعليقاتي بالكتاب الشيخ الجليل الأستاذ عبد السلام هارون، وهذا سبب يكفي لحجب الجائزة دوني. كان ابن عصفور قد استشهد بقول الشاعر:
خلافا لرأيي من فيالة رأيه كما قيل قبل اليوم خالف تذكرا
وأشار إلى أنه استشهد به أخذا من كتاب البيان للجاحظ. البيت بهذه الصورة يند عن قدرة أعتى عتاة اللغة والنحو عن ضبطه، مالم يكن قرأه عند ابن عصفور. فالبيت من بحر الطويل. والإشكال عندما تأتي لقوله: خالف تذكر. لو قرأته بتسكين الفاء في آخر فعل الأمر كما يجب أن تكون القراءة، ينكسر البيت ويخرج عن الوزن. ووجده الشيخ عبد السلام هكذا في كتاب البيان والتبيين الذي حققه للجاحظ. ولم يمر عليه البيت لأذنه الموسيقية المرهفة. لاحِظْ أنت ضخامة الكتاب وكثرة ما يشتمل عليه من الشعر، وأي جهد ذهني وعصبي تحتاجه حين تلتفت لكل صغيرة وكبيرة فيه. كان لابد للشيخ أن يقف عند البيت فيصححه ليستقيم الوزن، فغيره إلى قوله: خالف فتذكرا ليستقيم الوزن والنحو. الفاء للسببية ينصب الفعل بعدها لسبقها بالأمر، وهكذا ينحل الإشكال. لكن الشيخ عفا الله عنا وعنه أحال في تصويب البيت إلى كتاب الحيوان للجاحظ أيضا. وعندما عدت للبيت في كتاب الحيوان وجدت الرواية فيه: خالف لتذكرا. فأشرت أنا لذلك كله، ربما- عفا الله عني- في عبارة غاية في السوء؛ إذ قلت: "فعل كذا فيما ذكره في كتاب البيان، وفعل كذا في كتاب الحيوان، مع مخالفة ما ذكر هنا لما ذكره هناك، ومخالفتهما معا للصواب." كان ابن عصفور يستشهد بالبيت على حذف نون التوكيد المخففة للضرورة الشعرية في آخر فعل الأمر "خالف". الفعل يقرأ إذن بفتح الفاء في آخره، وجواب الأمر انقلبت فيه النون المخففة ألفا للوقف، كما في قوله تعالى: "لنسفعا". سكّن الشيخ من رَوْع تلميذه وهو يحتج عليّ معترضا وقال له بالحرف الواحد، فيما ذكره الدكتور بديع لي بنفسه حرفيا- وأنا هنا أحكي جميع ما أكتبه من الذاكرة مباشرة: "أنا اللي كنت غلطان".
يا أللــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه! ...... أي أخلاق علماء هذه. وأي كبر نفسٍ هذا. الرجل الذي حقق من الكتب ما تغرق فيه المحيطات، لا يغيب عنه هذا الموضع من كتاب الجاحظ! ويعترف لشاب هذا أول عمله في تحقيق الكتب أنه على صواب، وأنه هو- الشيخ الجليل- الذي جافى الصواب. أين تجد هذا في شيوخ التفكير الحديث في بلادنا الذين ينتفخ سحرهم- والسحر بضم السين وتسكين الحاء- كبرا وغضبا لو توجسوا مجرد توجس أنك وأنت تجالسهم قد تُلْمح بشيء. قارن هذا بموقف صديقي صاحب "عشة الفراخ" الذي أقام الدنيا وأقعدها حين أردت مداعبته اعتمادا على حسن ظني فيه، وأثار في وجهي عاصفة من الغبار عانيت من الرمد بعدها ولزمت بيتي، عملا بقول حافظ الشيرازي: عندما تثور دوامة الغبار في الخارج وتلوث جميع الوجوه أرجع إلى بيتي وأغلق عليّ بابي. لكني خرجت من بيتي بتأثير غباره جزاه الله عني، لأني وجدت العمر قد ينقضي وأنا باق على صمتي.

وبالطبع لقد خيّبت ظن الشيخ الجليل الأستاذ عبد السلام هارون فيّ- كما خيبت فيّ ظن كثيرين- حين بدا له أني قد أُكرّس عمري ووقتي لتحقيق الكتب التي قد أنال من قِبَلها مجدا منتظرا. وليسامحني الله وليسامحني الشيخ لقد كنت منذ أن أن عرفت الكلام ونطقت بالحروف وانتصبت قامتي على ساقين مأخوذا- كما أخبرني بعد ذلك أهلي- بالسؤال الدائم: ما هذا الكون ومن أتى به وماذا يريد به...إلخ وبقيت هذه الأسئلة تؤرقني وتستغرق سني وأوقاتي فالتمست المفكرين والأدباء وأهل الفن وأصحاب الفلسفات وغيرهم حتى وهنت نفسي وضاعت أيامي. وجانب من تفسير ذلك سيأتي حين أتعرض لنقد تلك النفس التي برّحت بي!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق