الجمعة، 17 أغسطس 2018

فصول من زمن مضى وزمن يأتي ( الحلقة الثامنة )

(8)
لماذا أنا فخور بهذه الجائزة؟ .....كانت الدنيا لم تزل بخير حتى ذلك الوقت 1981، رغم تسخطنا لما كانت تؤول إليه أحوال الأمة ونحن نراقب تدهورها وانحطاط قيمها يوما بعد يوم. لكن كان هناك رجال باقون من أهل الحق والاستقامة سبقت نشأتهم وتربيتهم انحطاط هذه القيم
بزمن بعيد. كان لم يزل لهم وجود في بعض المراكز المؤثرة. ومن هؤلاء شيخنا الإمام الأستاذ عبد السلام هارون الذي أخرج إلى المكتبة العربية بدائع عيون التراث العربي. وعمله الضخم يشهد أنه أحرق أيام عمره ولم يستثن ليضيء الطريق للناس. سئل الشيخ في حوار له في بعض الصحف القومية عقب حصوله على جائزة الملك فيصل لجهوده في تحقيق التراث إن كان في الجيل القائم أحد يبشر بشيء في مجال التحقيق. وكان هذا السؤال على غرار الأسئلة المعتادة التي تُسأل للرواد في أي من المجالات المختلفة. ربما كان أصحابها يسألون هذا السؤال شعورا منهم بانفلات الأمور وضبابية المستقبل المنذرة بالسوء. أو ربما كانوا يسألونه لشعور غامض لديهم بالقلق على المستقبل يقاومونه من حيث لايدرون بإجابة مطمئنة يتوقعونها. وجاءت إجابة الشيخ وفيها اسمي ووظيفتي بالجامعة: فلان المدرس المساعد بكلية الآداب بجامعة عين شمس. وهو ما كان قد قرأه على غلاف كتابي المنشور حديثا، وهو تحقيق ضرائر الشعر لابن عصفور الإشبيلي. فكيف كان تصرفي حين قرأت كلامه أو رد فعلي- كما يؤثر الناس أن يقولوا؟ كان تصرفا عجيبا غريبا مُنْكَرا. قلت لكم في صدر حديثي الأول إنني أكتب وفي نيتي أن أتأمل نفسي وأن أسبر أغوارها وكأنها شيء غريب عني. وقلت لكم هذا هو المعنى الحقيقي الذي من أجله رأى من رأى أن السيرة الذاتية فن مقصور على الغربيين. وما يسمونه أدب الاعتراف هو هذا، وليس ما تعلق به إخواننا الذين خربوا كل معنى في الثقافة الغربية فجعلونا نزدري ما أنتجته العقول الإنسانية الكبيرة. والعقل منحة الله للإنسان، وجب عليه أن يتعقبه حيث كان. اتصلت بالشيخ وأنا غاضب محنق لذكره اسمي كأنه ارتكب في حقي إثما ما كان ينبغي له. كنت مختنقا إلى حد الموت بما رأيته من أخلاق الناس، لا أنا قادر على التكيف معها والتعلم منها وتسيير أموري بها كما كانوا يُسيّرون أمورهم، ولا أنا قادر على استيعابها وتمريرها وعدم الالتفات إليها. وكأنما ساءني أن أجد الرجل نمطا فريدا على خلاف ما كان عليه الذين عرفتهم. الناس لا يذكرون أحدا بالخير إلا إذا كان قد قدم لهم نفعا، أو يفعلون ذلك لما يعقبه من مكافأتهم بمثله. قلت له في صراحة فجة: أنت لم تعرفني ولم تربطني بك مصلحة أو مناسبة أبادلك فيها نفعا بنفع، فلماذا تذكرني وما شأنك بي.
رحم الله هؤلاء الكبار لقد استقبلني الرجل في بيته بعد ذلك 1984حين انتهيت من مناقشة الدكتوراه وأهداني كتبه وفيها توقيعه النبيل وخطابه إليّ وفيه أني أحد ذريته المقربين.
ومرت أشهر بعد حديث الشيخ للصحيفة وتقدمت بالكتاب إلى الجائزة. ولم أكن أعرف أن الشيخ سيكون من كتب التقرير ورفعه إلى أمين المجمع يومئذ وهو الدكتور مهدي علام.

لماذا أنا فخور بالجائزة؟ لأنك كنت تستطيع أن تجتهد وتجدّ، فتجد من يقدر جهدك ويكافئك عليه. لماذا أنا فخور بها؟ لأن الجوائز حتى ذلك الحين على الأقل كان لها شرف اسمها، قبل أن تصبح هبات ومنحا. والهبات والمنح لا يشترط أن تقوم على أساس من الاجتهاد والعمل. أنا أمنحك لأن كلمات الثناء التي ذكرتني بها هزتني وحركتني للعطاء. ثم أنا أولا وأخيرا أمنحك مما منحني حظي السعيد وليس اجتهادي ونشاطي وكدّي، حين فاضت عليّ الأطرض بكنوزها مرة واحدة وفيها هذا الذهب الأسود الذي "سود" تاريخنا الأبيض. لو حتى كانوا ذكروا هذه المنح باسمها الحقيقي ولم يبقوا عليها الاسم القديم، لكان في ذلك ترويح للقلوب المنكسرة للذين يرونها تذهب لغير الجديرين باسمها الحقيقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق