الجمعة، 17 أغسطس 2018

فصول من زمن مضى وزمن يأتي ( الحلقة الثالثة )

(3)

صرخت ابنتي العزيزة التي كانت سببا في معرفتي بالأديب العظيم طيب الذكر الراحل إدوار الخراط الذي كان نمطا من البشر أحبه وأجله. كان من القلة التي ندت عن البطاريق. اختارت دراسة أدبه موضوعا لرسالتها للماجستير. لم يختره أحد لها، لكن هداها إحساسها السليم أين تتجه. علمت أني لا أرجع إلى أبنائي الباحثين بقائمة معدة سلفا من أسماء الأدباء الذين تربطني بهم صلات من تبادل المديح والإطراء والعزومات التي تكسر العيون كما يقال. وكم تساوي الدنيا أمام ارتياحك إلى نفسك إذا صنت ما زودها الله به مما يحفظها من الانهيار لو خسرت جملة من صفات فطرتها الأساسية- الحياء مثلا وعزة النفس- التي تعمل على حمايتها من أن تتقوض وتنهار؟ صرخت الدكتورة بسمة شحاتة في فزع وهي تعلق على ما كتبته بالأمس في الفقرة السابقة: "البطاريق لن تموت." أجل يا ابنتي العزيزة إنها لن تموت. ولكن ما يزعجك أنت من هذا ولله حكمة في جميع ما خلق. الأمر يصبح داهية من الدواهي لو أن ذلك صار أخلاق أمة أو ثقافتها أو إذا صار ذلك الحصيلة النهائية لما يدعوها إليه أدباؤها وغيرهم ممن درجوا على أن يكون أولئك لهم قدوة. والإنسان معد للوجهين معا: فجورها وتقواها. وهنا تأتي رسالتك بما كنت خليفة لله في الأرض. وأنا كنت ولم أزل أؤمن أن للأدب رسالة. وتهذيب النفس أو توسيع رقعة إلمامها بالمعاني وتجارب القلب رسالتان أساسيتان، وليس جرها إلى الاضمحلال والذبول بدعوى الإمتاع. كل ما يجر إلى المهالك فيه إمتاع: أنت تعلمين تأثير الهروين مثلا. تلك هي السيرانات في الثقافة اليونانية القديمة- تجر إلى المهالك بسحر غنائها. وهي الوجه الزائف لأورفيوس الشاعر المغني الذي هذب الوحش وحرك الصخور. هل تعلمين أني أتأمل كثيرا في سر الـ (2,5 %) أو ربع العشر وهي مقدار الزكاة الواجبة على البشر تجاه الفقراء. إنها ليست في المال فقط، بل في كل نعمة فضلك الله بها. إذا كان المرء مثلا مفتول العضلات قوي البنية ورأى ضعيفا اجتمع عليه قطاع طريق، فإن عليه زكاة تلك النعمة التي خصه الله بها في إنقاذ هذا المظلوم. أحيانا أقول لنفسي لو أن أمة عدد أبنائها مائة ألف ألف، فيهم مليونان ونصف مليون من أهل المروءة، لربما كان هذا هو الحد الأدنى للحفاظ على سلامة الأمة واستمرار مسيرتها. الأمر متروك لعلماء الاجتماع وغيرهم للنظر في أمر هذه النسبة وإجلاء سرها. ونعود لما كنا فيه من حديث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق