بقلم د. محمد بريري
أبدأ حديثي
عن هذا الكتاب الممتع بملاحظة أدلى بها أحد الزملاء في إحدى الندوات، حين أخذ على
صاحب الكتاب أنه لم يناقش موضوعا معينا، بل ضم بين دفتي كتابه مجموعة من الدراسات
المتفرّقة التي نشرت في مناسبات وسياقات مختلفة. وفات هذا الزميل أمران. الأول،
شكلي
إذ إن ما فعله الدكتور السيد إبراهيم تقليد معروف، فكثيرا ما يقوم المؤلفون
بضم عدد من الدراسات في كتاب واحد، طالما أنها متجانسة من حيث المضمون أو من حيث
المشكلات التي تتناولها. ويحضرني كمثال، كتاب مشهور للكاتب الأمريكي المعروف
ستانلي فيش الذي ضم عددا من الدراسات في كتاب ضخم سماه "هل ثمة نص في قاعة
الدرس".
الأمر
الثاني الذى فات صاحبنا أن عنوان الكتاب الذى بين أيدينا هو آفاق النظرية الأدبية،
ومادة هذا الكتاب في فصوله المتعاقبة تتطابق مع هذا العنوان تطابقا تاما، إذ من
خلال تلك الفصول قام المؤلف بعملية مسح شاملة عالج من خلالها أهم ما طرح من نظريات
وأفكار شكّلت في مجموعها، بالفعل، آفاق النظرية الأدبية الحديثة، أي ما طرح من
أفكار نقدية كبرى منذ بدايات القرن العشرين حتى اللحظة الراهنة. حين ينتهي القارئ
من مطالعة هذا الكتاب يكون قد ألم بمعظم المصطلحات النقدية الحديثة والمعاصرة
إلماما طيبا يعينه بعد ذلك على القراءة المفصّلة في كل موضوع من موضوعات النقد
الأدبي الحديث. وهذه مسألة مهمة إلى أقصى حدّ، لأن المؤلفين الذين يضعون أيديهم
على أصول المشكلات وجذورها الفلسفية أو الفكرية قلة قليلة في عالمنا العربي. إن
العثور على هذه الجذور المعرفية ثم تقديمها تقديما رصينا واضحا هو الذى يعصم
القراء من الضلال والتيه في غمار التفصيلات والشذرات التي يجمعها بعض الكتاب من
هنا وهناك، دون سيطرة حقيقية على جوهر الفكرة، أو الأصل الذي تفرّعت منه هذه
التفصيلات.
وقد تغري
سلاسة عرض الأفكار ومناقشتها القارئ بالظن أن بإمكانه، أي القارئ، أن ينهض بمثل ما
نهض به المؤلف، غير أن القارئ المتمهّل الذي جرّب الاشتباك مع الفكر النقدي
الحديث، يتبيّن له على وجه اليقين أن وراء هذه السلاسة في طرح المشكلات جهدا
خارقا، وثقافة عريضة عميقة أتاحت لصاحبها هذا التأليف. [دعك من قائمة المراجع
والمصادر، فإنها على كثرة ما ضمّته لا تستوعب إلا جزءا يسيرا من ثقافة المؤلف، تلك
الثقافة هي القاعدة أو الأساس الذي مكّن صاحبه من تلك السيطرة اللافتة على الأصول
والفروع].
هذا الكتاب،
إذن، يقدّم لقارئه فكرا عميقا، لكنه مع هذا العمق، يحقق لمن يطالعه متعة عقلية
روحية. ولعلني لا أجازف أو أبالغ حين أقول إنك حين تنتهي من آخر صفحاته تصبح شخصا
آخر غير الذى بدأ القراءة. هذا، بالطبع، إن كنت ممن يحسنون القراءة ويميّزون بين
بهرجة بعض العاملين في حقل الدراسات الأدبية، وجدّية من يتصدون مخلصين لعبء تغذية
الثقافة العربية بما يثريها ويمدّها بدماء جديدة تسري في عروقها فتبعث فيها
الحيوية، وتحفز أبناءها على إعادة النظر في كثير من المسلّمات.
هل معنى
كلامي هذا أن دقة تفكير السيد إبراهيم وسعة ثقافته تمنع القارئ من الاختلاف معه؟
لا، بالطبع، يجوز للقارئ، بل يستحب له، أن يختلف ويجادل، لكنه في هذه الحالة
سيختلف ويجادل عن بيّنة، بمعنى أن ترتيب الأفكار ووضوحها يجعل من الجدل معها أمرا
ذا معنى. إن كثيرا من الكتابات العربية التي يتداول أصحابها نظريات النقد الأدبى
يستحيل على القارئ أن يختلف معها، وذلك لسبب بسيط، هو أنها كتابات مشوشة لا تعرف
أولها من آخرها، هي عبارة عن جمل مرصوصة تفتقر إلى التماسك لكون أصحابها عاجزين عن
قيادة الفكرة أو ترويضها، فهي تتفلّت منه يمينا و يسارا، ويلاحقها هو لاهثا، عاجزا
عن لمّ شتاتها. فكيف يتأتّى لنا، عندئذ، أن نجادله أو نختلف معه، أو نتفق ؟
من المميزات
الكبرى، إذن، لهذا الكتاب إمكان مجادلته والاختلاف معه. وصاحب الكتاب نفسه يدعونا
إلى هذا حين يلفت نظر القارئ إلى ضرورة التفكير النقدي، وعدم التسليم بما يٌلقى
إلينا دون حوار أو مراجعة. غير أن الاختلاف والجدل شيء، والرغبة في الشغب شيء آخر.
وقد لاحظت، في إحدى المناسبات أن أحد الزملاء، بدلا من أن يناقش الكتاب أو يستدرك
على بعض ما طرح فيه من أفكار، أو أن يستوضح بعضها الآخر، قال إن النظريات النقدية
التي عالجها الكتاب سبق أن عرضها آخرون، أي أن الكتاب لم يطرح جديدا. حقيقة الأمر
أننا جميعا لا نطرح نظريات جديدة، بل نحاول الاجتهاد في فهم تلك النظريات ثم
تقديمها للقارئ العربي. غير أن السؤال ها هنا: هل نهضم تلك النظريات حقا؟ وهل تصبح
طريقتنا في عرضها، بعد ذلك، ناجحة في سبيل سبكها في جسد الثقافة العربية، بحيث
تصبح مكوّنا أصيلا من مكوّنات هذه الثقافة. الحاصل أن كثيرا مما يكتب في النظرية
النقدية يشبه أوراما سرطانية، تضرّ أكثر مما تنفع، أو لعلها تشبه بثورا ونتوءات
تشوّه وجه الثقافة بدلا من أن تجمله. و هي على أحسن الفروض كالوردة التي نقتطفها
ونضعها فى عروة الثياب مزهوين، دون أن نكون قادرين على استنبات هذا النبات الحي في
حدائقنا، على حد تعبير زكي نجيب محمود الذى اقتبسه السيد إبراهيم في مقدّمة كتابه
الذي بين أيدينا .
وأعتقد أن
السيد إبراهيم بذل جهدا جبارا، لا في هذا الكتاب فقط، بل في كل ما يكتب، في سبيل
أن يستزرع النظريات والفلسفات والأفكار المعاصرة في تربة الثقافة العربية. هذا هو
الفرق الأساسي بين نوع الجهد المبذول في هذا الكتاب، وما يقوم به آخرون في
كتاباتهم التي يتداولون فيها نفس الأفكار، لكن دون إخلاص حقيقي، بل ربما دون هدف
واضح سوى اكتساب السمعة، وتحقيق بعض المنافع العملية ذات الطابع الشخصي البحت. ليس
معنى ذلك، بالطبع، أن الكتابات الأخرى كلها غير ذات نفع، لكن النافع منها قليل، أو
استثناء من القاعدة العامة .
وهناك مسألة
لابد من الإشارة إليها فى هذا السياق، و هي أن المعيار الذى على أساسه نحكم على
مدى استيعاب الناقد للنظريات، يتجلّى في التحليل، أي التناول العملي للأعمال
الأدبية. هذا هو الاختبار الذى يكشف عن مدى تغلغل النظرية في عقل الناقد، ودرجة
استيعابه لها. هذا الاختبار يجيب عن سؤال مهم هو: هل أصبحت الأفكار و النظريات
مكوّنا أصيلا من مكوّنات تفكير الناقد، أم إنها لا تعدو أن تكون قشرة خارجية
تتطاير وتذروها الرياح حين تحتك بالعمل الأدبى؟
والقارئ
لتحليلات السيد إبراهيم فى هذا الكتاب وفى سواه من كتاباته الأخرى يدرك أهمية
السؤال الذى طرحته. حين يتعامل السيد إبراهيم مع نص من النصوص الأدبية أو النقدية
ينتهي إلى استنتاجات شديدة الإقناع للقارئ المدقّق، الراغب في تحصيل معرفة جديدة،
أو الراغب في الاستمتاع بالنص الأدبى استمتاعا راقيا، يثري العقل و يحرّره من كثير
من الأوهام والأحكام الباطلة .
وأقتبس في
هذا السياق ما ذكره السيد إبراهيم في عبارة أنيقة رائقة عن مهمة الناقد، إذ يقول
تحت عنوان تفسير النصوص: "ولا بأس أن يتخذ النقاد منهجا أو آخر من مناهج
النقد الأدبى في سبيل تحسين فهمنا للنصوص واستكشاف ما كان غائبا عنا لدى النظرة
الأولى. ونحن هنا نجني فائدتين: معرفة بأفكار نقدية جديدة قد تكون غائبة عنا؛
فالناقد بدأبه واطلاعه وعكوفه على مصادر الفكرة يغنينا ويثري عالمنا العقلي ويوفر
لنا أوقاتا طويلة من المشقة والعناء في تحصيل الأفكار والمناهج التي تعج بها
النظرية النقدية في عالم اليوم. والفائدة الأخرى أننا نلحظ مالم نكن نلاحظه من قبل
فى النصوص الإبداعية نفسها. والأمر هنا يتوقف على ذكاء الناقد وبصيرته واجتهاده
أيضا وإطالته النظر فى النصوص وحسن تلطفه فى الدخول إليها."
أما عن
تفسير المقولات النقدية، الذى لا يقل أهمية عن تفسير النصوص الأدبية، فإنني أشير
إلى ما دأب عليه السيد إبراهيم من نظر في النصوص التقدية التراثية، وفهمها فهما
جديدا في ضوء ثقافته النقدية الحديثة. إنني أشير، مثلا، إلى الخبر المشهور عن ابن
الأعرابي الذي كان يأمر في مجلسه بأن يكتب جميع ما كان يجري فيه، فأنشده رجل يوما
أرجوزة أبي تمام في وصف السحاب على أنها لبعض العرب...فقال ابن الأعرابي: اكتبوها،
فلما كتبوها قيل له أنها لأبي تمام، فقال: خرّق، حرّق، لا جرم أن أثر الصنعة فيها
بيّن .
كيف فسّر
السيد إبراهيم هذا الموقف الذى يتندّر به القراء ويعدونه دليلا واضحا على التعصب
للقديم. لقد فسّره في ضوء معرفته النقدية الحديثة بمصطلح أفق التوقع فقال:
"إذا استقبل المتلقي القصيدة أو الشعر على أنه لفلان من الشعراء، فإنه بذلك
يتهيّأ نفسيا وعقليا لتلقيه تلقيا مخصوصا يتلاءم مع خبراته السابقة بشعر هذا
الشاعر. وهذا هو حال ابن الأعرابي و الأصمعي فيما سبق من حديث؛ ذلك أن الشعر عند
كليهما قد قرئ قراءتين وتحرك في أذهانهما على نحوين متغايرين من التلقي: انفتح
الناقد على أفق آخر من التلقي حين ظن أن الشعر لشاعر قديم، فقرأ الشعر حينئذ، في
ضوء خبرته بهذا الأفق القديم. فلما قيل له إنه لشاعر حديث، انفتحت في عقله-حينئذ-
دائرة معرفية مغايرة من التوقع لونت الشعر تلوينا آخر، وأعطته معاني مختلفة، راجعة
إلى خبرة الناقد التي حصلها عن الشعر المحدث واستقرت في وعيه. وهذا دليل على أن
الشعر ليس له هوية مستقلة عن القارئ، وإنما هو حادثة تمر في عقل المتلقي ليس
غير."
والخلاصة أن
ابن الأعرابي كان صادقا في الحالتين؛ حالة الرفض وحالة القبول، لأنه قرأ الشعر
قراءتين مختلفتين لاختلاف أفق التوقع في الحالة الأولى عنها في الحالة
الثانية.
إن ما قام
به السيد إبراهيم في هذا الموضع من تفسير لنص نقدي قديم على ضوء فكرة نقدية معاصرة
هو ما يضفي على مناقشاته جاذبية خاصة، وهو، أيضا، ما يُشعر القارئ، طوال الوقت،
بأنه بإزاء اكتشافات تتوالى بتوالي القراءة .
لا يقدّم
هذا الكتاب لقارئه معرفة جديدة فحسب، بل يتسرّب إليه من خلال فصوله المتعاقبة
أسلوبا خاصا فى التفكير ويحقق له متعة عقلية فريدة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق