بقلم د.عز الدين إسماعيل:
مقدمة الديوان 1998م
ما كدت أفتح
الصفحة الأولى من هذا الديوان حتى واجهني الإهداء الذي كتبه الشاعر. إهداء الأعمال
الأدبية، بل العلمية كذلك، سنة مألوفة في زمننا الحديث، قد نتوقف عندها قليلا
وغالبا ما نعبرها سريعا، اعتقادا منا في أن طقس الإهداء هذا طقس شخصي، يفصح فيه
صاحب العمل عن موداته الخاصة والخالصة لشخص ما أو شخوص بأعيانهم، لهم في قلبه وفي
عقله مكانة خاصة ومن ثم فإننا لا نمنح مثل هذا الإهداء أهمية كبيرة، على أساس أنه
لا يتعلق تعلقا مباشرا أو غير مباشر بالعمل المهدي نفسه حين يهدي شاعر أو باحث
عمله الشعري أو عمله العلمي إلى أمه أو أبيه أو ابنه أو بنته أو أبنائه، أو إلى
صديقه الأثير إلى نفسه، أو إلى محبوبته، مصرحا باسمها أو مكنيا عنه، فإنه في كل
هذه الأحوال وأشباهها يعلن عن علاقته الحميمة بكل هؤلاء الشخوص، وعما لكل منهم من
مكانة في قلبه وفي عقله.
ولكنني ما
كدت أفرغ من قراءة الإهداء الذي تصدر الديوان حتى أدركت أنني بإزاء شيء يختلف كل
الاختلاف؛ فالشاعر لا يهدي ديوانه إلى واحد أو مجموعة من أولئك الذين ذكرتهم،
ولكنه يقلب السنة رأسا على عقب حين يهديه لا إلى شخوص آخرين مغايرين فحسب، بل إلى
شخوص
لهم في نفسه وقع النقيض من كل أولئك المألوفين؛ فهم بدلا من أن يكونوا مقربين
إلى نفسه، أثيرين إلى وجدانه وعقله، يمثلون النماذج الكريهة التي تبغضها النفوس
الكريمة. إنهم أعداء النور وأعداء الحياة "الذين يكرهون الشمس ودوران الليل
والنهار"، وهم كذلك "أعداء الشعر وقتلة القلوب". وهؤلاء لابد أن يكونوا
كريهين إلى نفس الشاعر، ومع ذلك فإنه يهدي ديوانه إليهم. لكن هؤلاء كريهون كذلك
إلى نفوسنا، وعندئذ نصبح طرفا بالضرورة في هذا الإهداء؛ إذ إن الشاعر لم يوجه
خطابه في هذا الإهداء إلى من يهمه مخاطبتهم بصفة شخصية خاصة، كما هو الشأن في
السنة المعهودة في هذه الحال، بل كان المخاطبون أفرادا نعرفهم نحن كذلك، ونشترك مع
الشاعر في إنكارهم ورفضهم والتشنيع عليهم. وهنا تتمثل المفارقة البليغة التي ينطوي
عليها هذا الإهداء، والتي نجح الشاعر في أن يستدرجنا للوقوف إلى جانبه فيها، حيث
أمكن أن يكون الإهداء/الخطاب إلى الآخر الكريه المرفوض من جهة، وأن يخرج من دائرة
الخاص (من كانت لهم علاقة حميمة بالشاعر) إلى دائرة العام (حيث نكون طرفاً في
الموضوع) من جهة أخرى. وعندما يمضي الشاعر فيستأنف إهداءه، محددا عندئذ شخوصا
بأعيانهم كانت له معهم مواقف محددة استكشف من خلالها سلوكهم الشرير نحوه مقابل
إحسانه إليهم (حيث ائتمنهم فخانوا، وكان لهم درعا فكانوا انتقاما)، وكيف أنهم
يوظفون ما منحهم الله من ذكاء في أن ينسجوا في الظلام أعمالهم الإبليسية الشريرة،
عند ذلك لا نملك أن ننسلخ عنه، وأن نرى في ذلك قضية شخصية وإن بدا كذلك، ولكننا
على النقيض نجد أنفسنا منخرطين معه في موقفه، قبل أن ننتبه لكي نلقي عليه السؤال:
كيف تهدي عملك الشعري إلى شخوص يمثلون فئة كريهة في المجتمع؟ وهل هم جديرون به؟
وعلى أي نحو؟
وهنا لابد
أن يخطر ببالنا أن الشاعر ليس ذلك الصنف من الناس الذي يأبى إلا أن يواجه العمل
الشرير بعمل من جنسه؛ لأن ذلك يعني- في بساطة- مضاعفة الشر، ولكنه يمثل صنفا آخر
يؤثر مواجهة الإساءة بالإحسان، وإشاعة النور من أجل تبديد الظلام. ولذلك لم يكن
غريبا منه أن يهدي شعره إلى خفافيش الليل، الذين يصنعون الشر في الظلام، ويكرسون
بذلك القبح في الحياة، لعله يستطيع بهذا الشعر أن يمهد طريقا للنور إلى قلوبهم
المعتمة، وأن يحل مجالي الجمال محل القبح المخندق في عقولهم. وفي إيجاز أقول: ربما
أراد الشاعر بديوانه هذا أن يكون أداة تطهير لنفوس أولئك الذين آثرهم به فأهداه
إليهم لأنهم- من منظوره- أمس حاجة إليه من غيرهم، إنهم الوجه الرديء للحياة، الذي
ينبغي أن يستبشعه أصحابه قبل غيرهم، حتى تبرأ الحياة من جهامتها، من الظلام الكئيب
المخيم عليها، وتعمها الطهارة والبشر والصفاء. ترى هل كان من باب المصادفة المحض
أن اختار الشاعر لنفسه لقب "أبو هالة"؟
فإذا تركنا
الإهداء وشرعنا في قراءة الديوان ذاته واجهتنا منذ اللحظة الأولى القصيدة التي
تحمل عنوان "لم يعد في القلب موضع"- وهو عنوان يثير التساؤل؛ فالقلب
الذي لم يعد فيه موضع هو القلب الذي امتلأ حتى فاض، ولكننا لا نعرف بأي شيء امتلأ
قلب الشاعر: هل امتلأ بالغبطة والسعادة والرضا أو بأضدادها؟ وتأتي الإجابة في القصيدة
في صيغة سؤال استنكاري دال على النحو الآتي:
وكيف اغتباطي بالليالي ولم أزل إذا قلت: طاب مضجع، مل مضجع
ومنذ هذه اللحظة الباكرة يستقر في ضميرنا أننا بإزاء
شاعر فاضت نفسه ضجرا بالحياة وبالناس فلم يعد فيها موضع لمزيد.
ومع ذلك
فالشاعر هنا ليس من أولئك الصنف من الناس الذين ما يعتمون يلقون بهمومهم على
الآخرين ويشركونهم بذلك- دون ذنب جنوه- في تعاساتهم الخاصة، ولكنه يحمل عذاباته
بين جنبيه في صمت، ويكتم ما تمور به نفسه من آلام حارقة، ولا يبدي من نفسه للآخرين
إلا السماحة ولين الجانب:
بين جنبيّ كاللهيب وأبدي لجليـــسي ترفــــــق
الفيلســـــــــــــوف
هذا ما يقوله الشاعر في القصيدة التي تحمل العنوان
الثاني للديوان كله "الاصطلاء بجذوة تخبو"، وكأن هذا المعنى هو أحد
مفاتيح الديوان الأساسية. وأعني بالمعنى هنا تلك الدلالة المفارقة بين ما يمور به
الباطن وما يترقرق في الظاهر؛ بين ما يستقبل الشاعر من الحياة وما يعطي، بين البغي
والأذى والطغيان في جهة، واللين والسماحة والغفران في الجهة المقابلة.
ومن قصيدة
إلى أخرى تتردد أصداء هذا المعنى المفارق على نحو أو آخر يختلف في خفائه أو رمزيته
قلة وكثرة إلى أن نصل إلى القصيدة المسماة "إلى الباكي على قتيل الغربة"
فنقع فيها على إفصاح من الشاعر عن مصدر عذاباته وجراح نفسه التي عيّ بعلاجها فإذا
البشر هم هذا المصدر، نقرأ:
يابني أمـــــــــــي ما أصبـــــــــــــرني بمحلي فيكمو، بئس المحل
كل جـــــرح عزنــــي داويتــــــــه وجــــراحي منكــــــــمو لا تندمل
وخليلي منكمو إثنـــــان، من شامت إن مسني خطب جلل
وحسود دارت الأرض بـــــــه فهــــو مكـــــــــروب معنى لم يزل
فالشاعر هنا يحتمل في صبر موقفه من الآخرين الذين يسيئون
إليه، وإن كان ما يصيبونه به من جراح يستعصي على الشفاء. إن أحدا من أصحابه
المقربين لا يقف إلى جواره يخفف عنه آلامه بل هم- للأسف- بين شامت فيه أو حاسد له؛
وهذا ما يضاعف من تعاسته. ومع ذلك فإنه لا يقابل الأذى بالأذى، أو الغدر بالغدر،
بل يكتفي بأن يسكب الدموع حسرة على الغادرين والشامتين والحاسدين، ولا يحمل لهم-
في مقابل مواقفهم- إلا كل ود:
أيها الجاعل قلبي غرضا لسهام الغدر هلا طبت هل
لك مني أدمعي أسكبها والمـــــــودّات ولــــي قهــــــر وذل
هذه في الواقع هي المفارقة الأساسية الكبرى التي ينطوي
عليها هذا الديوان؛ ثم تكون القصائد والمقطوعات المختلفة، التي يشتمل عليها،
تنويعات على هذا اللحن الأساسي، وتلوينات مختلفة له. ومن أطرف ما يمكن أن نقف عليه
من هذا قصيدة للشاعر في بيت واحد بعنوان "بلادي"، يقول فيه:
أدعو إذا ما الليل أرقني لك بالسلامة آخر الأبد
إنه لا ينسى وهو غارق في همومه الليلية المؤرقة أن يدعو
لها، البلاد/المحبوبة، بالسلامة إلى ما شاء الله.
وفي ضوء هذا
المعنى المحوري كذلك أدعوك أيها القارئ العزيز إلى التأمل في القصيدة التي تحمل
عنوان: "الليل وراءك".
ومع ذلك
فنحن نظلم الشاعر أو نظلم الديوان إذا قلنا إن قصائده ومقطعاته قاطبة تدور حول هذا
المحور وحده؛ فهناك آفاق معنوية أخرى يتفاوت ترددها في الديوان قلة وكثرة، ولكن
ربما كان أبرزها الأفق الذي تبرز فيه صورة المرأة المحبوبة أو المرغوبة، في قصائد
مثل: "من حديث الأيام الأولى"، و"النظرة الأولى"،
و"ويلي" وغيرها. ومع ذلك فلا نكاد نلمح من خلال هذه الصور ما ينم عن
كونها مصدر سعادة للشاعر. إنها صور متراجعة على الدوام، لا تخلف في نفس الشاعر إلا
الأسى والحسرة، أو تستثير فيه- بحكم المواجهة الكبرياء والأنفة. وكثير من هذا قال
به الرومانسيون من الشعراء من قبل.
وبعد، فإن هذا
الديوان يشتمل على أربع وأربعين قصيدة قصيرة ومقطوعة، ولكن الكم ليس هو المهم، فإن
إحدى وأربعين منها جاءت موافقة للنظام التقليدي للبيت وللقصيدة، وثلاثا منها جاءت
على استحياء في نهاية الديوان تحت عنوان "تذييلات من قصائد أخرى" مخالفة
لذلك النظام. والغالب على لغة هذا الشاعر وعلى نماذجه الإيقاعية هو المادة
التراثية الشعرية، وليس هذا غريبا على شاعر عايش الشعر العربي عشرات السنين، فإنه
مهما اجتهد في إخفاء ما يتسرب إلى ديباجته وإلى إيقاعاته من العناصر التراثية، تظل
هناك مواضع تعلن عن هذا التأثر إعلانا.
ومن ذلك-
على سبيل المثال- قصيدة "ويلي":
الفاتنــــــــــات القاتلا ت رمينني بلحـــــــــاظهنَّهْ
فإنها تستدعي بشكل حادّ "نونية" ابن قيس
الرقيات.
وعلى وجه
الإجمال يمكنني أن أقول إن عشاق الشعر العربي في نموذجه اللغوي الرصين، وفي
إيقاعاته الجهيرة سيجدون مذاقا خاصا لهذا الديوان، ومتعة روحية متجددة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق