الثلاثاء، 26 مارس 2013

الناقد المختلف


   بقلم  د. محمد علي أمين:

    تظهر شخصية الناقد المختلف في كل ما يتناوله من قضايا الأدب والنقد. فلا يقتصر دوره على عرض آراء غيره من النقاد، وترجيح بعضها. إنه ناقد يأبى إلا أن يكون متميزًا متفردًا، له رؤيته الخاصة التي قد تخالف ـ أحيانًا ـ ما يشبه إجماع غالبية النقاد والدارسين بشأن القضية الواحدة من قضايا الأدب والنقد.

    وليس الاختلاف، عند هذا الناقد، هدفًا في ذاته. لكنـه فحسب وسيلة للكشف. أو هو ـ بتعبير آخر ـ آلية لإعادة فهم بعض المسائل الأدبية والنقدية، وطرح بعض التصورات المختلفة بشأنها.
    الدكتور السيد إبراهيم ناقد متميز مختلف. يمتلك من الأدوات ما يعينه على التفكير الناقد الفاحص. فهو ناقد مستوعب للتراث الأدبي العربي بفروعه المختلفة. ولم يمنعه هذا من الانفتاح على الثقافة الغربية، وقراءة أهم ما كُتب بالإنجليزية حول النظريات الأدبية الحديثة، وفهمه، واستيعابه، والإفادة الجيدة منه في فهم النصوص الأدبية العربية.
    وليس في استطاعة بحث كهذا أن يحصر كل الجهود النقدية المتميزة لناقد مؤرق أبدًا باللحاق بركب العصر الحديث وإنجازاته النقدية. فالمتتبِّع للإنتاج النقدي له يلاحظ أنه تناول عددًا لا يمكن حصره من قضايا الأدب والنقد. وفي النية تخصيص مؤلَّف لحصر الجهود النقدية المختلفة المتميزة لدى الدكتور السيد إبراهيم.
     ففي مجال الدراسة الأسلوبية ـ مثلاً ـ  يُعَدُّ الدكتور السيد إبراهيم واحدًا من أهم نقاد هذا الاتجاه النقدي في مصر والعالم العربي. ولعل دراسته الأسلوبية لقضية الضرورة الشعرية( [1] )هي دليل واضح على ذلك. في هذه الدراسة، على حد تعبير صاحبها، " رؤية جديدة للضرورة الشعرية. هي ضرورة، لا بمعنى الاضطرار الذي يصادفنا في الأحكام الفقهية أو الشرعية المرادف للعجز وانتفاء الاستطاعة، بل بمعنى الحاجة الملحة. هي ضرورة تسد الخلل الناجم الذي يدعو إليها ويحفز على الإصرار عليها"( [2] ). إن الضرورة، وفقًا لهذا التصور، مقصود إليها قصدًا من قِبَلِ الشاعر؛ فقد اختارها لأنه رأى أنها، دون غيرها، يمكن أن تسهم في التشكيل الدلالي للنص.
    لقد عدَّت الدراسات العربية القديمة كل خروج على القواعد النحوية أو اللغوية، خطأ اضطر إليه الشاعر؛ لعجزه وقصور لغته. ولم تحاول تلك الدراسات التمييز بين الخروج الذي له قيمة فنية، ولا يُعَدُّ ـ من ثَمَّ ـ من قبيل الخطأ، وبين الخروج الذي يُعَدُّ خطأ؛ لعدم انطوائه على أية قيمة فنية، ولا يسهم ـ بالتالي ـ في تشكيل دلالة النص.  
    يظهر إذًا الاختلاف جليًّا واضحًا. فالضرورة الشعرية، في الدراسات العربية، مظهر من مظاهر العجز والاضطرار، لكنها، عند الدكتور السيد إبراهيم، " مظهر من مظـاهر الإرادة الشعرية، يتجلى فيها روح الأديب وفرديته، بل هي سبيل إلـى فهـم العمل الأدبي بأسـره باعتباره كلاً متكاملاً "( [3] ). وهنا يظهر البون الشاسع بين نظرتين: نظرة لا ترى للضرورة أية قيمة، بل تعتبرها من قبيل الخطأ المرتبط بالعجز وعدم الاستطاعة، ونظرة أخرى ترى للضرورة قيمة كبيرة، وتعتبرها مفتاحًا يمكن من خلاله الدخول إلى النص الأدبي وفهمه.
    وعندما ننتقل إلى المبحث التحليلي الذي أفرده الدكتور السيد إبراهيم لدراسة سورة الرحمن ( [4] )، نجد الشخصية النقدية المتميزة، والتفكير النقدي المختلف. لقد توقف ناقدنا في هذا المبحث عند مسألة تعرَّضت لبحث علماء العربية، ولها اتصال وثيق بقضية الضرورة الشعرية، هي ما جاء في قوله تعالى: ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾([5]). فقد أثارت هذه الآية بين العلماء، على حد تعبير الدكتور السيد إبراهيم، "اضطرابًا شديدًا لخروجها على نمط التعبير الذي دأب عليه القرآن من استعمال الجنة بغير لفظ التثنية. ولذلك كان القول بالجنتين في سورة الرحمن مفاجأة لم يتهيأ لها الفكر الديني الذي استقر له في نظام التصور غير ذلك. فالقول بالجنتين يتعارض مع القول بالجنة الواحدة. ولا يتهيأ للفكر الديني أن يأتلف القولان إلا على نحو من التأويل يستوعب فيه أحدهما الآخر. ولذلك تباينت أقوال المفسرين تباينًا شديدًا "([6]).
    وقد لاحظ الدكتور السيد إبراهيم أن " هذه الآراء على كثرتها لا تفض إشكال الآية، فليس لها ما يضمنها من الأسس الفكرية. وهذا ظاهر في أن كل مفسر إنما يقول من عنده شيئًا. فلم يَعْدُ قوله أن يكون رأيًا شخصيًّا. ولذلك بقي الإشكال قابلاً ما لا حصر له من الاختلافات التي لا تعول على أسس فكرية "([7]). وهذا ما دفع الدكتور السيد إبراهيم إلى أن يفسر هذه الآية تفسيرًا منهجيًّا، له ما يضمنه من الأسس الفكرية. من ثَمَّ فقد استعان في تفسيرها بآليات الاتجاه الأسلوبي.
    ولا يمكن فهم الآية عند ناقدنا منفصلة عن وجودها في السورة؛ " فهي المحيط الذي نشأت فيه، ولا يتأتى عزلها عن هذا المحيط. فهي تحمل خصائص الانتماء للسورة، وعزلها عنها يقصيها عن كل معنى يضفيه هذا الانتماء. فالنظر في سورة الرحمن يفضي إلى القول بأن التثنية هي القوة التي تهيمن على كل مظاهر التعبير في السورة، ومنها هذه الآية. كما أنه لا يمكن فهم التثنية  في السورة إلا متصلاً بتاريخ التثنية في اللغة العربية، إذ كان القرآن تعبيرًا عربيًّا يحمل كل خصائص اللغة التي نزل بها "([8]). 
    لقد استطاع ناقدنا تحديد سبب إشكال الآية. فتفسيرها بمفردها، بمعزل عن سياق سورة الرحمن، وبمعزل كذلك عن أشكال التثنية في تلك السورة وعلاقتها بتاريخ التثنية في اللغة العربية، هو ما أوقع العلماء في اضطرابات شديدة عند تفسيرها أدت إلى اقتراحهم تأويلات لا يمكن قبولها أو التسليم بصحتها؛ لأنها لا تستند إلى أسس فكرية منضبطة يمكن الوثوق بها.
    وعلى امتداد الدراسة تبرز الآراء النقدية الجريئة المتميزة للدكتور السيد إبراهيم. ولن أسوق هنا المزيد منها؛ حتى أفسح المجال للتوقف عند مثيلاتها في كتاباته الأخرى.
    وحينما أخرج الدكتور السيد إبراهيم كتاب: الرمز والفن  (مدخل الأسلوبية والسيميوطيقا إلى الدرس الثقافي)، في صورة أوَّلية تجريبية عام 1988م، عرضه على المغفور له الدكتور لطفي عبد البديع، الذي قرأه وأبدى إعجابه الشديد به قائلاً: تلك هي السيميوطيقا، هذا كتاب عظيم([9]).
    وأظن أن عظمة هذا الكتاب ترجع إلى عدة أمور، لعل أهمها يتصل بالمنهج الذي ارتكز عليه الدكتور السيد إبراهيم في فهم النصوص الأدبية.
    يقوم منهج هذا الكتاب على مخالفة عدد كبير من الدارسين والنقاد الذين يتفننون في عرض المصطلحات والمفاهيم النقدية فحسب، من غير أن يتأتَّى لهم التمثُّل الصحيح لها، وفهمها فهمًا دقيقًا، ومعرفة كيفية توظيفها في قراءة نصوص الأدب. ويبدو ـ على ما يظن الباحث ـ أن هؤلاء النقاد رأوا أن قوة الناقد إنما تتأتَّى من القدرة على عرض بعض أفكار النظرية النقدية ومفاهيمها والخوض فيها فحسب، وكأن هذا عندهم دليل على ثقافة الناقد وتميُّزه. وغاب عنهم أن المفاهيم والأفكار والمصطلحات ليست مهمة في ذاتها، وإنما تكمن الأهمية في فهمها واستكناه روحها ومدى الإفادة منها على المستويين: النظري والتطبيقي.
    من هنا أخرج الدكتور السيد إبراهيم هذا الكتاب في طبعته الأولى عام 1988م، دون أن يخلطه ـ كما يقول ـ بشيء من المفاهيم النقدية أو مصطلحاتها. وذلك لإيمانه الشديد بأنها شيء لا قيمة له في ذاته، وأن قيمتها في كونها سبيلاً موصِّلاً لفهم شيء أو رؤيته في داخل النصوص الأدبية، وأن من أدب البحث أن تظل المفاهيم والمصطلحات في رأس صاحبها وألا يخرج إلا ما يتمخض عنها من أفكار وتحليلات([10]). لذا جاءت القراءات التي طرحها في هذا الكتاب لنصوص الأدب بالغة العمق عظيمة الفائدة؛ لأن الاهتمام الرئيس كان متَّجهًا نحوها، وليس نحو عرض المصطلحات والمفاهيم النقدية.
    وعندما أخرج الدكتور السيد إبراهيم الكتاب في طبعته الثانية عام 2007م، اضطر، كما يقول، إلى طرح شيء من هذه المفاهيم والمصطلحات، لكنه فعل ذلك على استحياء، وعلى ألا تكون نسبته في الكتاب إلا كما تكون نسبة الملح في الطعام([11]).
    ولهذا كله اتصال وثيق بالتصور المتميز الذي وضعه للمناهج النقدية واستراتيجياتها المختلفة عمومًا. فهذه المناهج ـ على حد تعبيره ـ " لن تكون أكثر من مصابيح نستصحبها في رحلتنا خلال تلك القلاع المجهولة المسماة القصائد، أو غيرها من الأجناس الأدبية. هي أدوات نتحسس بها العمل الأدبي لا غير ونحن نجوس خلاله"([12]).                                         
    ولا يمكن الإفادة من أفكار المناهج النقدية ومصطلحاتها إلا من خلال الناقد الذي يتميز بالذكاء والمهارة والإخلاص. وهذا هو السر، كما يقول الدكتور السيد إبراهيم، "في الغثاثة التي نشعر بها حين نأتي لقراءة كثير مما يكتبه اليوم أناس ممن يكاثرون النقاد أصحاب الاجتهادات الذين تحدوهم الرغبة المخلصة في صنع شيء حقيقي لأدب أمتهم. لابد من الذكاء والإخلاص معًا حتى يكون لشيء ما في حياتنا قيمة "([13]).                                                                                
    ومن ينعم النظر في كتابات النقاد العرب المعاصرين؛ النظرية والتطبيقية، يلاحظ أن بعضًا من هؤلاء النقاد يتجه نحو تبسيط الأفكار والمصطلحات النقدية حتى يسهل على القارئ تلقيها دون عناء. لكن " فضيلة التبسيط هذه هي نفسها ما يتجه إليه بسببها الانتقاد. وقديمًا أدرك طه حسين هذا المعنى، حين كان يعمد في كتاباته لجمهور الناس إلى تبسيط المفاهيم النقدية، ورأى أثر هذه الطريقة على تلامذته في الجامعة الذين استسهلوها فطبقوها على أبحاثهم، وكانت النتيجة التبسيط ثم تبسيط التبسيط فقال كلمته التي رواها لي بعض تلامذته، وهو د. مصطفى ناصف: جنى طه حسين على طه حسين "([14]).
    ويرى الباحث ضرورة طرح الأفكار النقدية كما طرحها روادها دونما أي تبسيط يخل بمراد هؤلاء الرواد منها. إن فهم هذه الأفكار في صورتها الأساسية غير المُبَسَّطة هو أمر لازم للإلمام بتفصيلاتها. من ثَمَّ فإن على القارئ أن يجتهد في تحصيل هذه الأفكار وفهمها في صورتها الأصلية. فإذا ما تَمَّ له ذلك صارت هذه الأفكارـ نتيجة فهمه لهاـ بسيطة، وكانت إفادته منها كبيرة. أما أن يتم تقديم الأفكار إلى القارئ بعد تبسيطها، ثم قيام هذا القارئ بتبسيط هذا التبسيط، كل ذلك سيؤدي ـ دون شك ـ إلى تضييع الفكرة والإخلال بها.
    وإذا كان بعض الأسلوبيين ممن يستعينون في قراءة النص الأدبي باتجاه أو أكثر من اتجاهات علم اللغة، لا يهتمون ـ كثيرًا ـ بتوظيف النتائج التي يتوصلون إليها في إيجاد دلالة للنص، فإن الدكتور السيد إبراهيم يؤكد أن هذه النتائج لا قيمة لها في ذاتها، بل إن قيمتها تكون فيما تسهم به في تشكيـل دلالـة النص. ذلك أن "اللغوي قد يزودنا بوصف للنص الأدبي في إطار هذه النظرية اللغوية أو تلك، وفي إطار مصطلحات قديمة أو حديثة كالفونيم والمورفيم إلخ، لكن ذلك كله لا قيمة له ما لم يصب في فهم النص من حيث إن له تأثيرًا على قارئه؛ فالوصف اللغوي الذي لا يصاحبه تفسير للمعنى أمر لا جدوى منه"([15]). وإذا كانت الأسلوبية منهجًا قائمًا على دراسة لغة النص من مختلف الجوانب، فإن هذا لن تكون له أدنى فائدة مالم يقترن بطرح دلالة أدبية له. فدراسة لغة النص لا ينبغي أن تكون غاية في ذاتها، وإنما ينبغي أن تكون مجرد وسيلة تساعد على فهم النص وطرح دلالة له.
    وقد دار خلاف بين كثير من النقاد العرب المعاصرين بشأن غاية الشعر أو وظيفته، وهل هذه الغاية جمالية أم نفعية؟
    فمنهم من يفصل، فصلاً حادًّا، بين وظيفة الشعر الجمالية ووظيفته النفعية أو الأخلاقية، وينحاز نحو الوظيفة الأخلاقية، ويضع الوظيفة الجمالية في موقع الاتهام. بينما ينحاز آخرون نحو الوظيفة الجمالية، فيؤكدون أن الجمال النصي هو الأساس الذي يبدعه الشاعر، وهو ما يتفوق فيه مبدع عن آخر.
    أما الدكتور السيد إبراهيم فلا ينحاز لوظيفة دون الأخرى. فهو يرى أن الأدب ـ ومنه الشعر ـ قد يكون جماليًّا وأخلاقيًّا في وقت واحد، فالأمران قد يجتمعان في العقل الواحد دون تناقض. ثم إن كلمة "الأدب" نفسها في الثقافة العربية واضح فيها ـ على خلاف غيرها من اللغات التي تشتقها من فكرة الكتابة في مقابل المروي شفويًّاـ الانحياز إلى الوظيفة الأخلاقية: الأدب. غير أن الأدب ـ شأنه شأن أي شيء آخرـ قد يمكن توظيفه على غير وجهه، فكل سلاح يمكن استعماله في الخير وفي الشر، حتى الماء الذي نشربه فيه الحياة وفيه الموت. ليس هناك إذًا صفة ذاتية لشيء، وإنما العبرة بالمستعمل للشيء، كيف يستعمله([16]). إن هذا يعود بنا مباشرة إلى التفرقة التي أقامها الشكلانيون الروس بين اللغة الشعرية واللغة العادية، والتي أقاموها على أساس الكيفية التي تُستعمل بها اللغة،  فإن استُعملت لغاية جمالية فهي شعرية، وإن استُعملت لغاية توصيلية إخبارية فهي عادية. وهذا الأمر ينطبق على الشعر ذاته؛ فقد يركز مُستعمله على إبراز الجوانب الجمالية، أو الجوانب الأخلاقية، وأحياناً يركز على إبراز الجوانب غير الأخلاقية، ويركز أحياناً على إبراز الجوانب الجمالية والأخلاقية معًا.
    وللدكتور السيد إبراهيم منهج متميز في الترجمة عن الإنجليزية. فنحن، حين نقرأ نصوصه المترجمة، نشعر وكأننا لا نقرأ نصوصًا مترجمة إلى العربية، بل نصوصًا عربية أصيلة. فأسلوبه في الترجمة يمكن وصفه بأنه علمي متأدب، يجمع بين العلمية والأدبية. فالعلمية تقتضي من المترجم الدقة والأمانة؛ فلا يضع للمصطلح الأجنبي ترجمة غير دقيقة لا تتفق مع ما يدل عليه هذا المصطلح في البيئة التي ظهر فيها. أما الأدبية فتقتضي منه أن يصوغ ترجمته في قالب أدبي يكون أقرب إلى الثقافة العربية وليس إلى الثقافة الأجنبية، وهو ما نجده بوضوح في ترجمات الدكتور السيد إبراهيم.
    ومما يدل على ذلك ترجمته لمصطلح  "defamiliarization"([17]). فالجدير بالذكر أنه منذ تَمَّ تقديم هذا المصطلح إلى القارئ  العربي، درج معظم النقاد العرب المعاصرين علـى ترجمتـه بـ (التغـريب) أو (نزع الألفة) أو ترجمته بـ (كسر الألفة).
    أما الدكتور السيد إبراهيم فقد رفض كل هذه الترجمات، ورأى أن الأقرب إلى الصواب ترجمة هذا المصطلح بـ "الإغراب". ويرجع هذا عنـده إلى عـدة أسباب منها ([18]): أن الفكرة التي ينطوي عليها هذا المصطلح قديمة، ولها كذلك مصطلحها الذي يختلف عما يستعمله المترجمون، وهو ما يترتب عليه قطع الصلة بيننا وبين الكتابات النقدية القديمة، التي آثرت لفظتين هما: الإغراب والتعجيب. وهما المصطلحان اللذان يترددان كثيرًا في كتابات حازم القرطاجني في منهاج البلغاء. ومن قبل حازم ظهر المصطلحان في كتابات فلاسفة الإسلام كالفارابي وابن سينا، ولهما نفس المعنى. كما أن استعمال كلمة "التغريب"، كما يؤكد الدكتور السيد إبراهيم، استعمال غير صحيح؛ إذ التغريب ضد التشريق ليس غير.
        تبدو شخصية الدكتور السيد إبراهيم ويظهر تميزه في كل ما يطرحه من قراءات لنصوص الأدب. فهو ناقد يحاول دائمًا استثمار المصطلحات والمفاهيم النقدية وتوظيفها من أجل طرح قراءات جديدة مختلفة للنصوص الأدبية، تزيل الغموض الذي يكتنف كثيرًا منها.
    ويمكن أن نضرب مثالاً على ذلك بقراءته لقصيدة زهير بن أبي سلمى التي مطلعلها:
عفا من آل فاطمة الجواء         فيمنٌ فالقوادم فالحساء ([19])
فهو عندما يتوقف ـ مثلاً ـ عند أبيات زهير في الحمار الوحشي، يقول: "إننا نجد لزهير في قصيدته الهمزية خمسة عشر بيتًا في الحمار الوحشي، قد تبدو ثرثرة خالية من المتعة العقلية والشعورية، إذا لم يعاود قارئها النظر في القصيدة مرة بعد مرة وتجريب فهم الأبيات في كل مرة على ما يمكن الوصول إليه من أفكار عند تحليلها ومظاهرتها بعضها ببعض. ومعنى ذلك أنه لابد من قراءة أبيات القصيدة بعضها في ضوء بعض؛ فإن ذلك يُميط اللثام عن كثير من الأبيات التي يبدو أمرها مُلْغِزًا كقوله:
فإنكم وقومًا أخفروكم          لكالدِّيباج مال به العباء " ([20]).
    فتفسيرات القدماء لهذا البيت لم تستطع إزالة ما يكتنفه من غموض وإبهام. فابن قتيبة ـ مثلاً ـ يقول في تفسيره: "أخفروكم: جعلوكم خفراء. وكالدَّيباج مال به العباء: أي غلب عليه. ولم أرهم يثبتون البيت لزهير. وقد سألت عنه فلم أُزَدْ على هذا التفسير"([21]).
     ولعل فشل هؤلاء النقاد في تقديم تفسير مقبول لهذا البيت إنما يرجع إلى قراءته بمفرده بمعزل عن سائر أبيات القصيدة. وهذه النظرة السطحية الجزئية لن ترى في قصيدة زهير ـ ومنها هذا البيت ـ سوى مجموعة من الأبيات المتباعدة التي لا رابط بينها؛ فهناك أبيات تتحدث عن الحمار الوحشي، وأخرى عن محبوبة الشاعر، وثالثة عن الخمر، وغير ذلك من الأبيات، مما يؤدي إلى صعوبة إيجاد دلالة كلية للنص. وقد انتبه الدكتور السيد إبراهيم إلى خطورة هذه النظرة ونتائجها السلبية التي تنعكس على قراءة القصيدة؛ فطرح لها قراءة ـ يمكن وصفها بأنها كلية متعمقة ـ تحاول تبيُّن العلاقات التي تربط بين أجزاء القصيدة التي تبدو متباعدة؛ فأفاد في فهم الأبيات التي تتحدث عن الحمار الوحشي من الأبيات الأخرى في القصيدة، كتلك التي تتحدث عن محبوبة الشاعر، أو عن الخمر، أو غير ذلك. فاستطاع بذلك إدراج كل أبيات القصيدة ضمن سياق كلي يشملها جميعًا، أو ـ بعبارة أخرى ـ ضمن دلالة كلية واحدة تستوعب جميع أبياتها، وتتمثل هذه الدلالة، عنده، في فكرة رئيسة هي: البحث عن الحقيقة ومسئولية الراعي.
    إن أمر هذا البيت ينجلي ـ على حد تعبير الدكتور السيد إبراهيم ـ "إذا أمكن أن نبحث الصلة بين كلام زهير في الحمار الوحشي مثلاً وما تناوله في القصيدة من قضايا، كبحثه لقضية الحق الذي جعل له محكات ثلاثًا، أو الصلة بين ذلك وبين تجربة الشاعر مع المحبوبة أو تجربته مع الخمر أو غير ذلك "([22]).
    وفي القصيدة نفسها نراه يتوقف عند قول الشاعر في آل حصن:
وما أدري وسوف إخالُ أدري       أقومٌ آل حصن أم نساء
فيؤكد أن هذا البيت فُهِمَ على أنه هجاء لهم بنفي الذكورة عنهم. غير أنه يرفض فهم البيت على هذا النحو، ويذهب إلى أن أمر البيت لا ينجلي إلا إذا عرفنا أولاً أنه جاء في سياقين كلاهما لازم في تحليله أسلوبيًّا بوصفه خطابًا، وهما: السياق النصي، وتمثله القصيدة التي جاء فيها هذا البيت. والسياق الاجتماعي أو الثقافي الذي يرجع إلى الخلفية الثقافية الواحدة التي تجمع بين المتخاطبَين، والتي لا غنى عنها في تفاهمهما. وقد ورد هذا البيت في قصيدته في إطار فكرة الوفاء والغدر، وهذا هو سياقه النصي. أما سياقه الاجتماعي أو الثقافي فيتمثل في أن العرب كانت تذهب إلى أن الرجل لا يغدر، وأن الغـدر شيمة النساء([23]). والبيت، على هذا النحو، لا ينطوي على هجاء آل حصن. ويتأكَّد ذلك من استجابة بني حصن لشعر زهير، التي جاءت مختلفة عما يمكن أن يجلبه الهجاء الحاد الذي يمكن أن يُفهَم من ألفاظ هذا البيت([24]).
     ولعل هذا يؤكد الفائدة التي يمكن أن تعود على النص، إذا اعتمدت قراءته على المزج بين الملامح الشكلية وآليات تحليل الخطاب. فهناك جوانب في النص لا يمكن فهمها إلا من خلال آليات تحليل الخطاب، وحينئذٍ يكون الاعتماد في الفهم على الجوانب الشكلية وحدها، أمرًا عديم الفائدة.
    ولا يقتنع الدكتور السيد إبراهيم بكثير من القراءات التي تناولت الشعر العربي القديم، ويرى أنها لا تقدم تفسيرًا مقبولاً لما عُرِفَ من تميز العرب في هذا الفن الشعري. ولا يتحقق ذلك، عنده، إلا بمقاربة التلقي القديم لهذا الشعر، وذلك لمعرفة، الكيفية التي استُقبل بها هذا الشعر قديمًا. يقول: "إن الفهم الدارج لشعرنا ـ وهو فهم سطحي ـ لن يبرِّر ما عرفناه من تميز العرب في هذا الفن... فكيف إذن كان هذا الشعر عظيمًا، وهو في تلقينا اليوم إذا تلقيناه أدنى إلى أن يثير فينا الفتور؟ لأن هذا التلقي لم يعد صالحًا. لابد من مقاربة التلقي القديم، وذلك لا يكون إلا بالبحث عن الخلفية الثقافية للمجتمع العربي الأول الذي تلقى هذا الشعر وانفعل به ذلك الانفعال "([25]). 
    ويُعَدُّ هذا من المفاتيح الأساسية لفهم النصوص الأدبية عند ياوس، الذي تتَّجه عناية القارئ عنده نحو دراسة تاريخ تلقي النص من خلال ملاحظة ما يقع من اختلافات في تناول القراء له عبر المراحل المختلفة التي مر بها، مع تفسير هذه الاختلافات للوقوف على الطرائق المختلفة لفهم هذا النص في مختلف الحقب الزمنية التي مر بها. ففهم التلقي السابق لأي نص أدبي هو شرط أساسي، عند ياوس، لإنجاز قراءته.
    ولعل من المهم هنا كذلك الإشارة إلى تفسير الدكتور السيد إبراهيم حذف مفعول الطلب في قول امرئ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة          كفاني ـ ولم أطلب ـ قليل من المال
حيث يرفض محاولة تعيين شُرَّاح هذا البيت لمفعول الطلب المحذوف بأنه الـمُلْك، ويؤكد أن الأَوْلى القول إن الشاعر تركه دون تعيين، إشارة منه إلى أن الطلب مستقل بذاته بقطع النظر عن موضوعه([26]).
    ومن الواضح هنا أن الدكتور السيد إبراهيم استعان في ذلك التفسير بفكرة الرغبة Desire الأثيرة لدى لاكان([27])؛ فامرؤ القيس، كما يؤكد الدكتور السيد إبراهيم، هو شاعر الرغبة الأول في العربية؛ حيث تظهر في شعره فكرة الرغبة التي لا تتحقق أبدًا إلا بالموت؛ لأنها منهومة لا تشبع أبدًا  ولا  تتوقف عند حد([28]).
    ومن الواضح هنا أن توظيف أفكار لاكان فـي قراءة شعر امرئ القيس، أدت إلى نتائج جديدة بشأن هذا الشعر، كما أدت كذلك إلى مراجعة بعض تصوُّرات الشراح حوله. وهذا كله يُثْري شعر امرئ القيس، من خلال فتحه على آفاق جديدة من الفهم.
    وقد استطاع الدكتور السيد إبراهيم استثمار بعض المفاهيم النقدية الحديثة والإفادة منها في تصحيح بعض ما كان سائدًا لدى الدارسين والنقاد بشأن بعض الشعراء. فقد
ذهب بعض هؤلاء الدارسين، ومنهم يحيى الجبوري، إلى أن امرأ القيس بن جبلـة السكوني شاعر جاهلي. جاء ذلك في تقديمه لقصيدة هذا الشاعر التي أولها: 
إني على رغم الوشاة لقائل          سقى الجارتين العارض المتهلل ([29])
    لكن الدكتور السيد إبراهيم ذهب إلى أن هذا الشاعر ليس جاهليًّا، بل هو إسلامي عاش في صدر القرن الأول من الإسلام. فقد طرح الدكتور السيد إبراهيم قراءة لهذه القصيدة([30]) معتمدًا على استراتيجية التناص. حيث أثبت وجود علاقات تداخل قوية بين هذه القصيدة وسورة الرحمن؛ فالناظر في هذه السورة يستطيع أن يتبيَّن أن التثنية، بصورها المتعددة، هي القوة التي تهيمن على كل مظاهر التعبير بها. وكل مظاهر التثنية التي نصادفها في سورة الرحمن نصادف مثلها في قصيدة امرئ القيس بن جبلة السكوني. كما أثبت أيضاً وجود علاقات تداخل بين هذه القصيدة وبين قصائد أخرى للشماخ بن ضرار، وكعب بن زهير، وغيرهما من الشعراء. ولذا فإنه يخلص، في نهاية قراءته للقصيدة، إلى القول بوجوب تناول قضايا الشعر من داخله، ومن خلال المعرفة المتعمِّقة بالنصوص الأخرى للوقوف على أصل العلاقات بين النصوص الشعرية المدروسة وبين النصوص الأخرى التي يمكن أن تكون قد استقت منها.




( [1] ) أُنْجِزَت هذه الدراسة في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وكانت الأسلوبيـة وقتئـذ صيحة العصر. وللوقوف بشكل تفصيلي على هذه الدراسة راجع : السيد إبراهيم، الأسلوبية والظاهرة الشعرية ( مدخل إلى البحث في ضرورة الشعر )، مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط 4، 2007م.
( [2] ) السابق، ص 7.
( [3] ) السابق، ص 13.
( [4] ) للوقوف بشكل تفصيلي على هذا المبحث راجع: السابق، ص ص 97 ـ 120.
( [5] ) سورة الرحمن، آية 46.
( [6] ) السيد إبراهيم، السابق، ص 99.
( [7] ) السابق، الصفحة نفسها.
( [8] ) السابق، ص 100.
( [9] ) راجع: السيد إبراهيم، الرمز والفن ( مدخل الأسلوبية والسيميوطيقا إلى الدرس الثقافي )، مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط2، 2007م، ص8.
( [10] ) راجع: السابق، ص7.
( [11] ) راجع: السابق، ص ص 7ـ8 .
( [12] ) السيد إبراهيم، آفاق النظرية الأدبية الحديثة، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2008م، ص 51.
( [13] ) السابق، ص 52.
( [14] ) السابق، ص 30.
( [15] ) السيد إبراهيم، قراءة الشعر بين النظرة الشكلية وآفاق الاتجاهات الأسلوبية المعاصرة، مجلة علامات، المجلـد العاشـر، الجزء التاسـع والثلاثـون، النـادي الأدبـي الثقافـي بجدة، السعودية، ذو الحجة1421ﻫ / مارس2001م، ص 154.
(  [16]) راجع: السيد إبراهيم، من أزاهير الرياض( أحاديث من الأدب والنقد) ، النادي الأدبي بالرياض، السعودية،1424ه/ 2004م، ص ص 49 ـ  50 .
( [17] ) يُعَدُّ هذا المصطلح أحد المصطلحات المهمة عند الشكلانيين الروس؛ فغاية الفن عندهم هي نقل الإحساس بالأشياء عندما تُدرك، لا عندما تُعرف. وتقنية الفن عندهم هي جعل الأشياء غريبة وصعبة لكي يصعب إدراكها؛ لأن عملية الإدراك غاية جمالية في ذاتها، وينبغي أن تكون طويلة الأمد.
( [18] ) راجع: السيد إبراهيم، آفاق النظرية الأدبية الحديثة، ص ص 69 ـ 70.
( [19] ) للوقوف على نص القصيدة وقراءة الدكتور السيد إبراهيم لها، راجع له: الرمز والفن ( مدخل الأسلوبية والسيميوطيقا إلى الدرس الثقافي)، ص ص 29 ـ 54.
( [20] ) السابق، ص30.
( [21] ) ابن قتيبة، المعاني الكبيرة، ص 1110.
( [22] ) السيد إبراهيم ، الرمز والفن ، ص ص 30 ـ 31 .
( [23] ) راجع: السيد إبراهيم، آفاق النظرية الأدبية الحديثة، ص ص 151 ـ 152.
( [24] ) راجع: السابق، ص 153.
( [25] ) السيد إبراهيم، الرمز والفن، ص 16.
( [26]) راجع: السيد إبـراهيم، المتخيل الثـقـافي ونظـرية التحلـيل النفـسي المعاصر، مركز الحضارة العربية، القاهرة،  2005م،  ص ص 125 ـ 127.
( [27] ) تجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم الرغبة يختلف، عند لاكان، عن مفهوم الحـاجة Need. فإذا كانت الحاجة اندفاعًا عضويًّا ينتهي بإشباع عضوي، فإن الرغبة صورة عقلية لموضوعات لا يمكن إشباعها أبدًا؛ فالرغبة، عند لاكان، لا تُـشْبَع أبدًا. ( راجع: إديث كريزويل، عصر البنيوية، ترجمة: جابر عصفور، دار سعاد الصباح، الكويت،1993،  ص 288 ). كما تختلف الرغبة كذلك، عند لاكان، عن مفهوم الطلب Demand . فالإنسان حين يولد يكون عاجزًا عن إشباع حاجاته بنفسه، فيطلب من الآخرين مساعدته في إشباعها، ويكون التعبير عن هذا الطلب، في الغالب، صوتـيًّا. غير أن طلب الإنسان للآخر قد يتجاوز، فيما بعد، مَهَمَّة الإشباع، ويصبح طلبًا لهذا الآخر في ذاته. لكن هذا الطلب لا يتحصَّل للإنسان أبدًا، مما يؤدي إلي ظهور الرغبة. ( راجع: عبد الله عسكر، مدخل إلى التحليل النفسي اللاكاني، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط2، 2001م، ص ص 136  ـ 137 ).
(  [28]) راجع: السيد إبـراهيم، المتخيل الثـقـافي ونظـرية التحلـيل النفـسي المعاصر، ص125.
( [29] ) للوقوف على هذه القصيدة وتقديم يحيى الجبوري لها، راجع له: قصائد جاهلية نادرة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1982م، ص ص 139 ـ 145.
( [30] ) للوقوف على هذه القراءة بشكل تفصيلي راجع: السيد إبراهيم، الرمز والفن، ص ص 145-158.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق