الثلاثاء، 26 مارس 2013

"صلوات العشاق" الديوان الأول للشاعر السيد إبراهيم


د. حامد أبو أحمد:

    قرأت أعمال الدكتور السيد إبراهيم الشعرية، وكان يمكن أن أكتب عن مجمل أعماله أو عن تطوره الشعري منذ البداية إلى الآن، ولكني آثرت أن أكتب فقط الآن عن ديوانه الأول "صلوات العشاق" المنشور عام 1990. ولهذا الديوان عنوان آخر هو "الاصطلاء بجذوة تخبو". والذي شدني للكتابة عن هذا الديوان الأول أشياء كثيرة، من بينها
أن هذا العمل الأول يدل على معرفة قوية من جانب الشاعر بالتراث الشعري العربي، وأن الشاعر عرف كيف يستفيد من هذا التراث الزاخر ليقدم قصيدة عربية فيها قوة ورصانة وإحكام في فترة كان الشعر فيها يعاني من اختلالات كثيرة وهي فترة الثمانينيات من القرن الماضي التي شهدت الكثير من التخبط، والكثير من العتمات، والكثير من فقدان التأثير لا سيما بعد وفاة عدد من الشعراء البارزين، ثم ظهور قصيدة النثر بمفاهيمها المختلفة وتوجهاتها المتشعبة والتي لم تحسم إلى الآن لصالح هذا التيار الجديد. أيضا كان هناك خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات محاولات للعودة إلى القصيدة بمفهومها التراثي. وهذا النمط تم رصده عند كثير من شعراء الجيل الأول في شعر الحداثة أو الشعر الحر، أذكر من بينهم عبد الوهاب البياتي في دواويينه الأخيرة، وحسن فتح الباب وبعض شعراء جيل السبعينيات، وإن كانت العودة إلى التراث قد تحققت بأساليب جديدة وصور مبتكرة تتناسب مع طبيعة اللحظة التي عاشها الشاعر.
     أيضا شدتني مقدمة ديوان "صلوات العشاق" والتي جاءت تحت عنوان "بين يدي الديوان"، ولهذا سوف أتوقف أولا عندها. فقد نقل لنا الشاعر قول الفرزدق: "إن هذا الشعر كان جملا عظيما فنحر، فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، وذهب ابن كلثوم بسنامه، وزهير بكاهله، والأعشى والنابغة بفخذيه، ثم لم يبق إلا الذراع والبطن فتوزعهما الفرزدق ومعه سائر الشعراء". ويعلق السيد إبراهيم على هذه الكلمة بقوله: "هكذا كان رأي الفرزدق الشاعر الذي قيل فيه: "لولا الفرزدق لذهب ثلث اللغة". ثم يتحدث الدكتور السيد عن أن الشعر قد امتهن اليوم فانفتح للخاص والعام بابه، وكان الأولون يحرمون على أبنائهم أن يقولوه أو يشيعوا ما يقولون منه في الناس إذا قالوه إلا وقد استكملوا عدته واستوفوا أسبابه، ويحكي في ذلك خبرا عن زهير وابنه كعب الذي قال الشعر وهو صغير فكان أبوه ينهاه ويضربه مخافة أن يقول شيئا لا خير فيه. 
     استوقفني في هذا التقديم أيضا تعريف الدكتور السيد إبراهيم للشعر حيث قال: "إن الشعر أنهار وغدران وعيون ماء وجو صحو وغيوم وأمطار ورعود وبروق، ولحظة للشمس عند شروقها ولحظة عند الغروب، ويقظة ناشئة من حياة قلقة قلقها ذو صفة إيجابية، ثم هو مكان منفسح انفساحا لاتحده حدود، وصور خيالية كصور السراب الذي تلمع به الصحراء وقت الهجير وسكون الكائنات سكونا يشبه الجحيم، وأصوات طير وهمهمات كعزيف الجن، ونبأة كأنما تأتي من عالم آخر". وهذا تعريف جيد للشعر يدل على أن مفهوم الشعر عند الدكتور السيد إبراهيم هو الحياة بكل ما فيها من جمال وسكون وصخب وإمتاع وأشواق وحنين وغير ذلك. وليس لي على هذا التعريف إلا اعتراض واحد هو "تشبيه سكون الكائنات بالجحيم" لأن التناقض هنا شديد الوضوح. قال تعالى في سورة "القمر": "إن المجرمين في ضلال وسعر. يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر" (آية 47 و 48). ولا يمكن أن يتم كل هذا في سكون.
     ولا شك أني منذ بداية حياتي لديّ ولع شديد بمعرفة مفهوم الشعر وكيف يكتب أو كيف يكون، ولهذا عرجت عليه كثيرا في كتبي أو مقالاتي التي تتناول الشعر، وأكتفي هنا بالإشارة إلى مقال واحد هو "مفهوم الشعر عند خورخي لويس بورخيس". يعرف بورخيس الشعر بأنه شيء شديد الالتصاق بالنفس، شيء جوهري جدا، وأننا لكي نعرفه لا بد أن نعمل على التخفيف منه أو تذويبه، لأننا في مثل هذه الحالة نبدو وكأننا نحاول تحديد اللون الأصفر أو الحب أو سقوط الأوراق في الخريف. وينتهي بورخيس إلى أن التعريف الوحيد الممكن للشعر ربما يتمثل فيما قاله أفلاطون من أن الشعر هو هذا الشيء الجريء المجنح المقدس. وهذا التعريف في الواقع ليس تعريفا- كما يرى بورخيس- وإنما هو فعل شعري، لكنه على أية حال يصلح أن يكون تعريفا للشعر، لأنه لا يعرفه بطريقة صارمة بل يقدم للمخيلة صورة لملاك أو طائر. وهذا في الحقيقة هو الشعر. إنه فعل يستعصي على التحديد.
     ومقدمة الدكتور السيد إبراهيم تستكمل تعريف الشعر في أقوال أخرى مثل "الشعر والحرية توأمان" و "الشعر فحل لا ينبت في قلب عنِّين" و "الشعر فرس جامح لا يستكين إلا لذي سطوة بصير يخرجه من وحشيته إلى العالم الإنساني. وهو مرقى تزل من دونه القدم: إذا ارتقى فيه الذي لايعلمه/ زلت به إلى الحضيض قدمه. وهو كالفن قيود وليس راحة وفراغ بال". وبهذا نتأكد أن الشعر عند الدكتور السيد إبراهيم ليس مسألة سهلة ولا هينة، وإنما هو مكابدة وعشق وثقافة ضاربة في أعماق القدم. وهذا ما سوف نجده في ديوان "صلوات العشاق"، ولعله يكون درسا عمليا للكثيرين ممن يستسهلون الآن.
الشعر هو الحياة: 
يتضح من قصائد هذا الديوان الأول للدكتور السيد إبراهيم أنه منذ البداية كان يفهم الشعر على أنه تعبير عن الحياة: الحب والأمل والطموحات، والطبيعة بكل ما تحمل من صروف وتقلبات، والسكون والقلق والابتهاج، والتضحية والفداء، والأشواق واللقاءات، والضحك والبكاء وغير ذلك. ولهذا تتنوع موضوعات الديوان وتتعدد، من موضوعات في الحب، إلى أخرى في الوطن، إلى كثير من الهواجس النفسية والظنون والخوف، إلى الندم وتأنيب النفس والغوص في بواطن الأشياء.
     ومن الطبيعي أن يكون للحب نصيب كبير في بداية حياة الإنسان، ولهذا جاء الديوان تحت عنوان "صلوات العشاق" أو العنوان الآخر المأخوذ من إحدى القصائد وهو "الاصطلاء بجذوة تخبو" أي أن ثمة اصطلاء بالحب، لكنه هذا الاصطلاء الذي جاء في لحظة تخبو فيها الجذوة بحيث لا تؤدي إلى حروق مؤثرة. ثم إن الديوان مكتوب بطريقة الشعر العمودي ومنشور عام 1990 ومعظم القصائد كتبت خلال عقد الثمانينيات، لكن به قصائد أولى تعود إلى عقد الستينيات. وكل هذا في وقت كان الشعر خلاله قد قطع مرحلة طويلة في مسيرة القصيدة التفعيلية أو الشعر الحر، بل إن عقد الثمانينيات شهد ظهور قصيدة النثر. فهل يعني هذا أن الشاعر السيد إبراهيم بدأ الكتابة الشعرية على الطريقة الرومانسية التي كانت قد انتهت تقريبا في أوائل الخمسينيات؟ ولا شك أن الإجابة على هذا السؤال بالنفي القاطع، لأن الشاعر لم يكتب قصائده المنشورة في هذا الديوان بالأسلوب الرومانسي، وإنما لجأ إلى أسلوب إحيائي صارم انطلق من الشعر بمفهومه القديم عند الشعراء الفحول في الجاهلية والإسلام.
     ويحسن هنا أن نقارن بين قصيدتين أولاهما قصيدة "كبرياء" للشاعر الرومانسي العظيم الدكتور إبراهيم ناجي وقصيدة "صناعة الوهم" من ديوان الدكتور السيد إبراهيم وهي قصيدة في كبرياء الحب أيضا. وبما أن قصيدة إبراهيم ناجي طويلة نأخذ منها المقطع التالي:
 وحبيــــب كـــــان دنيـــــــا أملــــــي       حبـــه المحــــــــــراب والكعبة بيته
من مشى يومـا على الورد لـه       فطـــريقـــــي كــان شـــوكا ومشيته
مـن سقى يوما بمــــــاء ظـــــامئا       فـأنا من قــدح العمـــــــــــــــر سقيته
خفق القلــــب لـــه مختلجـــــــــا       خفقة المصباح إذ ينضب زيته
قد ســلاني فتنكـــرت لــــــــــــه       وطـــــــــوى صفحــــة حبي فطــــويته 
     ويلاحظ في هذا المقطع وفي كل قصيدة الدكتور إبراهيم ناجي وضوح الخصائص الرومانسية: لوعة المحب، وتحمله للمشاق، ومشيه على الأشواك، ورضاه بالقليل في مقابل الكثير الذي يقدمه، والمعاناة في الحب وعلى الرغم من ذلك لا يلاقي إلا الهجران والنكران، ومن ثم فإن حالة التنكر والسلوان التي ركبته كانت مجرد رد فعل دفعت إليه الأوضاع مما جعل الشاعر يلوذ بكبريائه ويعلن أنها عندما طوت صفحة الحب اضطر هو الآخر أن يطويها. أي أنه في كل الأحوال هو المتلقي، وهو الذي عانى من القطيعة والحرمان، وقراره النهائي ما هو إلا رد فعل تجاه ما لقي من هوان على يد المحبوب. وهذه- بلا شك- خصائص رومانسية نجدها عند كل شعراء هذا التيار.
     وننتقل إلى قصيدة "صناعة الوهم" وهي مكونة من ثلاثة أبيات فقط، تقول:
أعطيت ما يعطيــــــــه كل أخي هوى       أما الهوان فليس من أخلاقي
ما أنت إلا ما صنعت وصاغــــــــه       هـــــذا الخيــــال ولهـــــفة الأشواق
مزقـت أوراقـــي وكنــــــت وكلـــــــــــما        شــــاء الهوى قلبت في الأوراق
فهذا الشعر لايحمل أي خاصية من خصائص الشعر الرومانسي. فالشاعر هنا يواجه المحبوبة مواجهة حازمة صارمة قوية مؤكدا لها أنه قدم كل ما يقدمه أصحاب الهوى لكنه بعيد كل البعد عن أن يصل إلى حالة الهوان (قارن هذا بما فعله إبراهيم ناجي)، ثم إنه يفجؤها بأنه هو الذي صنعها بخياله ولهفة أشواقه وأنها بغير هذا لن تكون شيئا، ومع ذلك فإنه لم ينتظر رد فعلها ولا إجابتها بل مضى بسرعة إلى تمزيق أوراقه، ولا بأس أن يعود إلى هذه الأوراق عندما يجد دافعا يدفعه إلى ذلك.
     فالشاعر في هذه الأبيات التي تحمل عنوان "صناعة الوهم" يبدو وكأنه يقول إنك وهم صنعته أنا بخيالي ولهفة أشواقي، ويمكن أن أمزق الأوراق فلا يبقى من هذا الوهم شيء. ألا يقربنا هذا من عالم عبد السلام بن زنباع الملقب بديك الجن عندما أحرق حبيبته وذرى ترابها أو وضعه في كأس وأخذ يشرب منه وقال قصيدته المشهورة التي لا مثيل لها في تاريخ الشعر العالمي. طبعا المشابهة هنا تأتي من بعيد لكنها تؤكد لنا أن السيد إبراهيم عندما كتب الشعر في بداية حياته لم يكن متأثرا بالرومانسيين وإنما كان على صلة قوية بالشعراء القدامى.
     ففي قصيدة كتبها السيد إبراهيم في طنطا عام 1965 تحت عنوان "من أحاديث الشباب الأول- ويلي":
الفاتنـــــــــــــــات القــــــــاتلا       ت رمينني بلحـــــــاظهنه
فأصبن قلبــــــــا خــــــــــــاليا       وأهجن نفسا مطمئنة
وأثرن حـــــــربا داخــــــــلي       فيها الصوارم والأسنة
وصحا الفؤاد ولم يكن       يعنيــــــــه يومـــا شأنهنه
ويلـــــــــي عليـــــه وويلتــى       إما تركت له الأعنــــــــة
فهذه أبيات كتبها شاب في ميعة الصبا لم يلجأ في كتابتها إلى ما كان يكتب في تلك الأيام من قصائد من الشعر الحر أو قصائد رومانسية بل لجأ إلى عمود الشعر بنفس الطرق التي كان يكتب بها القدماء. وإني أذكر في هذا الشأن قصيدة زهير بن جناب الكلبي التي وردت في السفر الأول من كتاب "طبقات فحول الشعراء" لمحمد بن سلام الجمحي بتحقيق العلامة محمود محمد شاكر. وزهير- كما ذكر المحقق- كان في زمن كليب بن وائل، وكان سيد قومه وشريفهم وخطيبهم وشاعرهم ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم  وحازي قومه (والحزاة الكهان) وكان فارس قومه، وله البيت فيهم، والعدد منهم، ويقال إنه سمي كاهنا  لسداد رأيه، ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى رزاح بن ربيعة أخي قصي بن كلاب من أمه فاطمة بنت سعد بن سيل. تقول القصيدة:
أبنـــــــــــــــــــــــي إن أهلك فإنـــــــي قد بنيت لكم بنية
وجعلتكم أبناء ســـــــــــــا       دات زنادكــــــــــم ورية
من كل ما نال الفتـــــــى       قد نلته، إلا التحية
والموت خيــر للفتى      وليهـلكن وبــــه بقيـــــــــــة
من أن يرى الشيخ البجال، وقد يهــادى بالعشية
وقد زاد الشيخ محمود شاكر ستة أبيات أخرى قال إنه وجدها في كتاب المعمرين واللسان والأغاني لحسنها وفائدتها في تمام معنى الشعر، ويمكن أن يعود إلى كتاب الفحول( ص36-37) من يريد الاستزادة.
     ولا نترك كتاب "طبقات فحول الشعراء" قبل أن نتوقف بإيجاز عند اثنين من شعراء الطبقة الأولى وهما امرؤ القيس والنابغة الذبياني لنرى ما الذي قاله فيهما وفي شعرهما محمد بن سلام الذي قال: "فاحتج لامرئ القيس من يقدمه قال: ما قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والتبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبه النساء بالظباء والبَيْض، وشبه الخيل بالعِقبان والعصي، وقيد الأوابد وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى- وفال من احتج للنابغة: كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتا، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف، والمنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر، والشعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي، والمتكلم مطلق يتخير الكلام".
     ومن حق القارئ أن أصارحه بأن الذي شدني للكتابة عن هذا الديوان الأول للشاعر السيد إبراهيم أني وجدته منذ الفترة المبكرة من حياته، وربما كان في ذلك الوقت طالبا في المرحلة الثانوية، حريصا كل الحرص على أن يكتب الشعر كما كان يكتبه القدماء. وقد رأينا مثالين من قبل، والآن نأخذ مثالا آخر وهو قصيدة "رُبَّ" التي كتبها في الكرما- محافظة الغربية عام 1968. والقصيدة مكونة من خمسة أبيات، تقول:
ياخليــــــــــــــــــلا إلىّ يشــــــــكو هـــــــواه        أي شــــــــيء تراه في مستطاعي
ليس لي سلطان على الحب إذ لم       أحكم الحب وهو في أضلاعي
اشــــــــرب الكأس جهــــرة إنك اليو       م مـــراد الأحـــــــــزان والأوجـــــــــــاع
رب ليل للبشــــــر واللهـــــــــــــــو والقصــــــــف تراه يضيـــــــق فيـــــــــــــــــــه ذراعــــــــي
وحبيــــــــــــب لخــــاطـــــــــــــــري يتراءى       وهــو مني العنقـــــــــــــــاء بين ذراعي
ومن الواضح أن الشاعر لم يفطن إلى أن القافية جاءت واحدة في البيتين الأخيرين، لكن ما يهمني هنا هو التركيز على ما يلي:
استخدم الشاعر بحرا من ذوي التفعيلات المختلفة وهو "الخفيف" (فاعلاتن- مستفعلن- فاعلاتن)، وهنا الخفيف التام. ومجرد اللجوء إلى هذا البحر في هذه السن المبكرة يدل على أن الشاعر كان لديه معرفة قوية بعروض الشعر، وهذه مسألة لا تتاح للكثيرين.
القصيدة بعيدة تماما عن الشعر بمفهومه الرومانسي.
الأبيات فيها قوة في البناء، وتلاحم بين الشكل والمضمون، ورؤية تقترب كثيرا من المفهوم القديم للشعر الذي يتغلغل في أعماق النفس ولكن بدون اللجوء إلى العويل والبكاء. فإذا كنت تشكو من الحب فما عليك إلا أن تلجأ إلى الكأس كي تتخلص من أوجاعك وأحزانك. فقد كان الشعراء قديما يرون الحياة هكذا، وها هو الفتى السيد إبراهيم ينحو نحوهم وينزع منزعهم. وقد جاء البيت الأخير (الخامس) يحمل إلى حد ما رؤية حديثة تتمثل في استلهام هذا الطائر الأسطوري المعروف باسم "العنقاء" وهي مفردة تكررت في الشعر الحديث كثيرا. أي أن الشاعر وإن أراد أن يطل علينا برؤية تراثية خالصة إلا أنه لم يسلم من التأثر بما كان يدور حوله.
نموذج تمثيلي: 
     أود أن أتوقف في السطور الباقية عند قصيدة عنوانها "ثلاثة مقاطع إلى يوهان فولفجانج جيته"، وقد قال الشاعر إنه كتبها تعليقا على أبيات للشاعر الألماني من ديوانه "أشجان رومانية" من المقطوعة الخامسة التي تقول:
"ولئن سلبتني الغانية سويعات من  النهار، فإنها تعوضني  عنها
 بساعات من الليل وليس الليل كله بعناق، فإنا  لنتحدث فيه
 الحديث الرصين، وتأخذها سنة من النوم، فأنظم بين ذراعيها
وتراودني  ألف  فكرة، وأقسم  بأصابعي الماجنة  على  ظهرها
تفاعيل بيت من القريض"          ترجمة عبد الرحمن صدقي
وقد اختار الشاعر السيد إبراهيم أن يكتب ثلاثة مقاطع انتقى لها واحدا من أصعب البحور العربية وهو بحر الطويل، بل إنه لجأ إلى أصعب أشكاله كما سوف نرى. فبحر الطويل من البحور ذوي التفعيلتين المكررتين، وأصل تفاعيله فعولن, مفاعيلن، ولا يستعمل في الشعر إلا تاما، وله عروض واحدة مقبوضة وجوبا، وله ثلاثة أضرب: صحيح، ومقبوض،  ومحذوف. ولكن بالإضافة إلى ما سبق فإن بحر الطويل يدخل فيه "التصريع"، ومعناه تغيير العروض بالزيادة أو النقص لإلحاقها بالضرب في الوزن والروي. كذلك هناك رخص أخرى في بحر الطويل مثل قبض فعولن، وعلة النقص التي يمكن أن تقع في ضربه، والخرم أي حذف أول الوتد المجموع. أي أنه بحر عنده استعداد كبير لمنح الرخص. وقد استفاد من ذلك الشاعر السيد إبراهيم لاسيما فيما يتعلق بالنقص، وهذا إن دل فإنما يدل على معرفته العميقة بعروض الشعر. فقد قال في مطلع المقطع الأول من القصيدة المشار إليها:
هنيــــئا لك الليـــــــــــــــــــل الذي بت واجدا       به السهد أحلى من لذيذ الرقاد
علـــى غصــــــــة بين الأضـــاليع والحشــــــا       أبيت إذا ما الليل ضم وســــــادي
وتهتـــــــف بي فوق الأفانين رحمـــــــــــــــــــــة       وريقــــــــــاء باتت طوقـــــــــــت بســـواد
عرائس أحــــــلام الشـباب الذي ارتضى       بهـــــــــــــــن بديل الغانيـــــــــات فؤادي
هوين هوي الكأس عن كف شــــــارب       وأبقين في الأحشـــــاء غلة صـــادي
فهذه الأبيات المكتوبة في القاهرة عام 1986 جاءت في هذا البحر الذي يحتاج إلى احتشاد شعري خاص، ولم يكتف الشاعر بذلك بل إنه لجأ إلى استخدام الرخص التي يجيزها هذا البحر، في لغة قوية رصينة، تعيدنا إلى الشعر بلغته التراثية المحكمة، وصوره البلاغية المصنوعة بدقة. وتأمل مرة أخرى هذا البيت:
هوين هوي الكأس عن كف شارب     وأبقين في الأحشاء غلة صادي
فهنا مقابلة صائبة بين الكأس التي هوت قبل أن يشبع الشارب غلته وبين الأحشاء التي ما زالت تعيش في غلتها.
     ولا ينسى الشاعر في نهاية القصيدة أن يختمها بمثل ما كان يفعل الشاعر الألماني إذ يعوض نفسه بالليل مقابل ما ضاع عليه في النهار. يقول السيد إبراهيم:
رأيت الغــــــــــواني لم يزل كل باذل       إليهن محفوظ الهوى والوداد
أحلته في السوداء من كل شادن       أياد لـــــــــــــــــه موصـــــــــــــــولة بأياد
وما ضاع عند الغيد فالليل بعده       يجود به والليـــــــــــــــل خير جواد
     يضم الديوان قصائد أخرى كثيرة تثير الإعجاب وتحتاج إلى الشرح والتأويل مثل "إلى الباكي على قتيل الغربة" و "إلى سليمان خاطر" و"الرباعيات المتواطئة" و "ما قاله العاشق المودع" و "بغير عنوان" و"ابتهاج" وسواها، ولكننا نختم بالقول: إننا أمام شاعر أراد أن يعيد للشعر العربي ديباجته القديمة، وفحولته التي عصفت بها عواصف البعاد، وكر الأزمان، وتعاقب الليل والنهار. وبحسب الشاعر أنه لفت الأنظار إلى قضية مهمة هي أننا يمكن أن نعبر عن قضايا عصرنا وأشواقنا وأحلامنا وطموحاتنا باستدعاء هذه القوالب القديمة التي ظن بعضنا أن الزمان قد عفى عليها. ولكن ها هو الشاعر السيد إبراهيم يبكي عام 1989 زميلا مات في صنعاء (قتيل الغربة) بهذه الأبيات القوية التي عبرت خير تعبير عن اللحظة الحاضرة. قال في الأبيات الأولى:
أيها الباكي بدمع ســــــاخن     اسكب الدمع على من لم يطل
إنما الميت من عــاش وليـــــــــــــــــــس الذي عن عالم الهـون ارتحــل
لي فـــــــؤاد لم يزل يصـــــرعه     كل يوم نبــــــــــأ يدنــي الأجــــــــــــــــــــل
إن سعى اللهو على سنته     فرأيت الفـــــأر يقتــــــــــــــــاد الجمـــــل
فزمــان هــــــــــذه آيتــــــــــــــــــــــــه     لهـــو الطوفان أنى ســــــــــرت حــــل


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق