الثلاثاء، 26 مارس 2013

السيد إبراهيم صديقاً وزميلاً "رشحات ذاكرة.. ونفحات وجدان "


أ.د. نبيل حداد
أستاذ الأدب والنقد الحديث  جامعة اليرموك، إربد، الأردن

لم تكن دفعتنا آنذاك تجاوز العشرة ..كنا طلبة ناضجين.. لم نكن تلامذة  فحسب...
وكانت تجمعنا أسبوعياً أربعة مجالس علمية. كان الأساتذة على وجه التحديد: مهدي علام، ولطفي عبد البديع، وعزالدين إسماعيل، وإبراهيم عبد الرحمن، رحمهم الله جميعاً. هؤلاء هم من كانوا يعقدون معنا هذه المجالس (الحلقات) أيام الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء ضمن البرنامج الأسبوعي للسنة التمهيدية للماجستير... كان هذا قبل أقل قليلاً من أربعين عاماً.
     وكان ثمة مجالس صباحية على مدار أيام الدوام الرسمي الستة. كنا – طلبة الدراسات العليا – نستقبل بكل ترحاب في مكاتب الأساتذة الآخرين من مثل: عبد القادر القط، ومصطفى ناصف، ورمضان عبد التواب، وعبد المنعم إسماعيل، وأحمد كمال زكي، رحمهم الله، و ممن هم ما زال على قيد الحياة، من مثل: مصطفى الشكعة، ومحمد عبد المطلب، وعفت الشرقاوي، وصلاح فضل، وعبد الهادي زاهر، وغيرهم ممن ندعو لهم -جميعا- بطول العمر وموفور الصحة.
     وكان لنا مندوب بين هؤلاء الكبار، أعني السيد إبراهيم المعيد في الكلية، الذي يأبى إلا أن يظل طالباً باندماجه مع الطلبة وبعلاقاته الصعبة مع بعض الأساتذة ومماحكاته لهم، أكثر من كونه عضو هيئة تدريس...

     كنا مجموعة من الأصدقاء (ليس زملاء فحسب) اثنين أو ثلاثة من الوافدين، ومثلهم في العدد من المصريين.
     وقد لاحظت، منذ بدء تلك السنة (التمهيدية) التي لا يمكن أن أنساها، أن السيد يعيش همه (الإداري) الخاص. لم يشأ السيد– طيلة ستة الأشهر الأولى من تلك السنة الدراسية– أن يتحدث معنا عن قصته مع ذوي النفوذ ومعاناته معهم بسبب طبيعته التي لا تقبل الانضواء (تحت أبط) أي كان مهما بلغ نفوذه واشتد سعيه في إغلاق منافذ الوظيفة وإتمام التعليم أمام شاب لا يبغي – في أول الأمر وآخره – أكثر من نيل فرصته المشروعة التي أتاحها له موقعه كأول دفعته. 
     كنا نتمشى ذات مساء، بعد مجلس علمي حافل لأستاذنا المرحوم لطفي عبد البديع، في شارع كامل صدقي (الفجالة) وكان السيد يتحدث بحماسة عن منهج أستاذه الأثير – آنذاك-أي المنهج اللغوي الإستاطيقي. كان موضوع حديثنا كتاب لطفي الصادر حديثاً: الشعر واللغة، وكنت– بدوري– أبدي تعجبي للسيد ومع من كان معنا آنذاك، من كون لطفي لم يترجم بعد كروتشه للعربية لاسيما أن باعه الطويل في الترجمة قد تجلى في (دون كيخوته). 
     وفجأة دخل زميل ثالث على الخط، وسأل السيد عن آخر أخباره في الجامعة... وكأن السيد كان ينتظر هذه السؤال من زملاء يعرف أنهم يعرفون الكثير عن أسباب معاناته الإدارية وعن أطرافها كذلك، ولكنه تجنب الخوض في هذا الموضوع إلى أن -كانت تلك الأمسية... النتيجة الوحيدة التي خلصنا إليها– أصدقاء السيد– أننا كنا حقاً مخدوعين ببعض الناس ممن كنا نراهم كبارا، وأنهى السيد كلامه في الموضوع بقوله: تركتم تكتشفون حقيقة الأمر بأنفسكم...
    ياه... إنها -قصة السيد- صيغة نعيشها في الحياة بالصورة التي نقرأها في قصص الكبار.. وهي همُّ قليلون مناّ، معشر الأكاديميين، لم يعيشوا وجهاً من وجوهه. لقد صور يوسف إدريس هذا الهم تصويراً صادقاً في اثنتين من أفضل ما قرأت في القصة العربية القصيرة هما  "لغة الآي آي" و"حالة تلبس". ولكن صاحب المعاناة عند يوسف إدريس كان الطرف الظالم.. الحديدي في القصة الأولى وعميد الكلية في القصة الثانية. كلاهما –في جانب من معطيات القصة-كان يأبى أن تتاح الفرصة لمن يأتي بعده ليأخذ فرصته ويحقق طموحه... لا أعرف مصير الطرف المظلوم في القصتين، ولكنني أعرف جيداً كيف تغلب السيد على كل تلك الظروف، واين يقف الآن!!.
     ولنعد إلى قصتنا؛ فقد كان النصف الأول من السبعينيات سنوات صعبة انعكست خلالها سلبيات كثيرة على العلاقات السياسية العربية. انكمشت كثيراً أعداد الطلبة العرب القادمين إلى مصر، ولم تعد من ثم ملتقيات كثيرة – خارج الجامعة -  تجمع بين طلبة الدراسات العليا من مصريين ووافدين. ولكن علاقتي بالسيد كانت تتعمق باستمرار. وقد شهد مسكنه (المؤقت) الواقع بين غمرة والعباسية لقاءات لا تنسى بين أفراد الشلة. وكانت استضافات السيد لنا تشمل إجبارنا على قضاء اليوم كاملاً في ضيافة حاتمية تستمر من الضحى إلى منتصف الليل.
    ولكن السيد ترك مسكنه، في الوقت الذي فيه – نحن الطلبة الوافدين – اعتدنا على أن نغير باستمرار شققنا المفروشة، فانقطعت – من ثم- سبل التواصل. وكانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها السيد قبل مغادرتي القاهرة عام (1980) بعد حصولي على الدكتوراه... كانت قبل ذلك بحوالي عام... لم أغفر لنفسي، وطيلة خمسة عشر عاماً أو أكثر تلت ذلك اللقاء أنني لم أسأله عن عنوان دائم، بل اكتفيت بإعطائه عنواني، ثم تركت شقتي إلى شقة أخرى، وهكذا فإن الخلل في انقطاع التواصل وقع من جانبي.. إلى أن كان يوم...
     استضفنا في مؤتمر النقد الذي يعقد كل سنتين في اليرموك، ما بدا للجميع أنه علم من أعلام العربية، ولكنه بالنسبة لي كان – كذلك – الصديق الطيب، بل الأب الودود والعالم الذي لا يشق له غبار في تخصصه: رمضان عبد التواب...كان اللقاء في منزل أحد طلبته الذي أصبح الآن صديق عمره حنا حداد (عميد كليتنا إلى ما قبل سنوات قليلة) كان حفلاً لائقاً بمكانة رمضان عبد التواب ويعكس درجة المحبة التي يكنها له صاحب الحفل وسائر المدعوين... وكالعادة كان أستاذنا رمضان نجم الجلسة بأحاديثه العلمية الطلية، وقفشاته المتتابعة، ثم بذكرياته التي تهمني.. وفجأة سألته: ما أخبار السيد؟ فتوقف وسأل باهتمام دافق: السيد إبراهيم محمد؟ قلت: "كله" يا أستاذنا... قال: إنه يدرس الآن في أحد المعاهد العلمية في اليمن... ودون أن أضيف كلمة واحدة على سؤالي الأول.. راح يتحدث عن معركة السيد وعن نجاحه في إنهاء الدكتوراه، ثم بدأ أستاذنا يروي لساعات حكايته هو ومعاناته هو التي تطابق بأسبابها وأطرافها، معركة السيد... ولحسن الحظ فإنه كان يحفظ عنوان السيد. كانت مفاجأة غير منتظرة، وسعيدة...
     حسناً، رسالة سريعة إلى اليمن، ليأتي الرد بعد أقل من عشرة أيام، لم يكن رداً حميماً فحسب، بل كانت رسالة محملة بأجمل ما يمكن أن ينتظره الواحد منا.. من الآخر، مجموعة من الإصدارات التي تقول بأقوى تعبير: اطمئن يا هذا، فإن السيد تغلب في نهاية المطاف، على الصعاب ومحاولات إغلاق أبواب المستقبل.. تغلب على هذا بقبول التحدي، والمجاهدة والمجالدة والصبر والإصرار، والأهم من كل هذا بالإيمان بعدالة الموقف ليبلغ المرء.... ما وضعه لنفسه من أهداف مشروعة ولا أقول من "آمال كبرى"، إذ لا أظن أن واحداً من جيلنا يطاوعه وعيه على الاستجابة لإغراء حلم يقظة بهذا الحجم.
     ثم يحل السيد بيننا في إربد مشاركاً متألقاً في مؤتمر اليرموك، أقدم المؤتمرات الجامعية العربية في حقل النقد... يقدم إسهاماته بورقة البحث، والنقاش، والجدل، وبشعره الرقيق في أمسيات الترويح، ويترك السيد من التأثير لدى الجميع... ما يجعلني أقول في كل مناسبة: هاكم أعز وأروع ما خرجت به من مصر...
     من نعم الله علينا أن أحزاننا تصغر مع الأيام، أما ما يفرحنا فيمكن أن يكبر مع الأيام، ولا أظن أن هناك ما يمكن أن يفرح أكثر من تلتقي صديقاً تكبر مكانته لديك- ولدى الآخرين على ما أظن - مع الأيام فتزداد العلاقة نفاسة، وتسود مع التقدم في العمر، الذكريات فتستمد من وهجها طاقة مقاومة لمرحلة باتت تصارحك بحقائق الوجود... هأنذا أحرص على لقاء السيد كلما وطئت أرض الكنانة... لابد أن أراه ولو لساعات، وأحيانا لدقائق...
     أما في إربد، فأعلل النفس بقدوم الزميل إلى أحد المؤتمرات عندنا أو بزيارة قريبة أقوم بها للقاهرة... وكعادة كثيرين ممن هم في مرحلتي العمرية أقتات بالذكريات... ذكريات حلقات الدرس في آداب عين شمس، أو المجالس في شققنا البسيطة، أو تناول الليمون المضروب بالخلاط في مقهى أو محل عصير في محطة الأتوبيسات بالعباسية، حيث كنا نفترق بعد حلقة الدرس... السيد إلى غمرة؟ وأنا إلى الجيزة، وأحيانا إلى جهة واحدة فحسب حيث يلتئم شمل الشلة وينعقد المجلس من جديد...
     وكثيراً ما أستعيد تلك الأيام لا عاطفياً فحسب، بل عقلياً ووجدانياً من خلال ما أهدانيه السيد من جهوده الحصيفة حول "الضرائر" "ونظرية الرواية" و "النقد الثقافي"، ثم هذه الدواوين الجميلة التي تضم شعره وتصور شعوره النبيل نحو الحياة... ماضياً مهما قسا.. وحاضراً مهما صعب .. ومستقبلاً مهما حمل..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق