الثلاثاء، 26 مارس 2013

"صلوات العشاق" والمقطعات الشعرية


بقلم أحمد حسين الطماوي

     عرفت د. السيد إبراهيم في تسعينيات القرن العشرين شاعرًا صادق الأحاسيس فيما يرسله من أقوال شعرية، وكان من أوائل مؤلفاته التي أهداها إلىّ ديوان "صلوات العشاق" أو الاصطلاء بجذوة تخبو، وهو باكورة دواوينه. واسترعاني من بين ما استرعاني فيه تأريخه لقصائده ومقطعاته، وهو عمل مهم يسهّل تأريخ الأدب ويخبرنا بزمن إبداع الأشعار ومكانها، ولا شك في أن البيئة والعصر لهما تأثير في النتاج الأدبي، هذا فضلا عن الإحاطة بأحوال النفس، وشواغل الذهن فترة بعد فترة، وهذا التأريخ ينقص الكثير من دواويننا مما يوقعنا في اضطراب.
     وأهم ما استلفت نظري في "صلوات العشاق...
" كثرة ما به من مقطعات، والمقطعة لا يتجاوز عدد أبياتها سبعة يتركز فيها الفكر، وتتكاثف فيها المعاني، ونظرًا لصغرها، وجودة صياغتها، فإنها قد تحفظ وتروى، وقد اشتهر إسماعيل صبري باشا الملقب بشيخ الشعراء، بكثرة مقطعاته، ولا يرجع هذا إلى استخفافه بالمقطعة، وإنما إلى الرغبة في الإتقان والكمال، وكان يوصي تلامذته بالانصراف عن القصائد الطوال خشية الترهل والضعف، وما أظن أن د. السيد إبراهيم تأثر بقول صبري باشا، وإنما كان إذا استوفى موضوعه وعبر عن شعوره في بيتين أو أكثر أمسك عن القول.
     ولم يكن شاعرنا ساهيا عما فعل، فقد كتب في مفتتح ديوانه يقول: "هذه نخبة مما قلت تتفاوت الأبيات فيها طولا وقصرا، لا يشين طويلها طول، ولكن قصيرها يشينه على وجه اليقين أن يطول، وكم من أبيات قليله كنت أزيد فيها، فأرى الزيادة تتخونها، وتأخذ من نواحيها، وتطمس ما قد يكتنفها من إشعاع أو انفعال، فأرى ذلك عين النقصان، ورب بيت مفرد وحيد، كان يتقلص إذا أردت أن أضم إليه جيرانا، كأنه قد تأبد، وآثر الوحشة والاغتراب".
     وهذا يدل على الصدق في الرؤية، فالإحسان والافتنان في القصيدة أو المقطعة ليس بالزيادة والانتقاص، وإنما الواحدة منهما زاخرة بالمتع في حدود استيفائها لموضوعها وتحقيق غرضها.
     وفي المقطعة لا ينتقي الشاعر موضوعه، في الغالب، وإنما يحدث ما يثيره على غير انتظار منه، أو تهيؤ له وينطقه شعرًا، فهي ليست من التخيلات، وإنما إبداع طارئ، أما الخيال، فقد يأتي في أثناء الصياغة.
     وكثيرًا ما تتضمن المقطعة، على قصرها، معنى كليًا، إذا تأملته ألفيت جزئيات كثيرة تنتظمه، ولكن الشاعر يركز النظر فيها، ويوجزها، ويستخلص رؤية عامة مثل قول شاعرنا في مقطعة "بينهما":
أعيش بأوهام القرون التي مضت       وأهــــــــــــذي بأوجال القــــــــرون التي تأتي
وأهتف بالأيام بينهـــــــــــما اركضي       بما يركض المخبول واقضي بما شئت
     ففي لحظة من لحظات التأمل في الحياة، خطرت هذه الخواطر في ذهن الشاعر واستحالت شعرا على قرطاسه، والحياة توحي بخواطر متنوعة من بينها ما استوحاه شاعرنا، فالماضي غامض لا يؤدي إلى معرفة، والمستقبل مثير للمخاوف لأنه مجهول، أما الحاضر فليس خيرا مما مضى، وما يتوقع، فهذه الأزمنة الثلاثة لا يستبين فيها شيء، وما دامت كذلك، فكأنها زمن واحد مجهول وسلسلة من الأوهام والمخاوف، ولا تنخدع بقوله عن الحياة " اقضي بما شئت" فظاهر كلامه أن الحياة كلها خداع، وأيامها متشابهة، وهي نظرة قريبة من نظرات حكيم المعرة أبي العلاء الذي كان يرى الماضي كالحاضر ولا تقدم في الحياة.
     فانظر إلى هذا العمل الفني المتكامل الذي جاء في كلمات قلائل نتيجة نظرة عامة شاملة للحياة. والعمل الفني يكون جديرا بالنظر إذا أبرز معنى كبيرا.
     وقد جرى كلام نقدي كثير في الوحدة العضوية منذ حديث الأستاذ العقاد عنها في كتاب "الديوان في الأدب والنقد" ووقع خلاف حولها، ولا أريد أن أخوض في هذا الجدل، ولكن أعتقد أن المقطعة الشعرية المكونة من عدة أبيات هي خير ما تتمثل في أبياتها الوحدة العضوية، فإن الشاعر يرسل قولا يأتي في عدة أبيات، تتدرج فيها المشاعر، وتتسلسل فيها الخواطر، ففي الغالب يعالج الشاعر موضوعه دون وقوع اضطراب في أبياته، لأن الأبيات القلائل لا تستنفد طاقة الشاعر وإمكاناته، ومن ثم تأتي متماسكة متوشجة.
     ومن جداول الشاعر الصغيرة، أو مقطعاته مقطعة "لا تعجلي" التي يقول فيها:
هنـــــــــــــا تعــــالي أقبلي       أكل هذا السحر لي
أكل هذا الطيب يا       كوبيـــــــــــــد والتــــــــــــدلـل
تمهـــــــــــــــــــــــــلي لا تبذليــــــــــــــه  كلـــه لا تعجــــــــــــــــلي
يحتاج هذا الحسن بعـــــــــــــــــض الوقـــــــت للتأمل
ولمســـــــــة اليدين في       قطيــفة ومخمــــــــــــــــــل
تلك البــدايات وبعـــــــــــــــــــــــــدها البقيـــــــــــــــــــات تلي
     وفي هذه الأبيات تنتعش آمال الشاعر، وتطمئن نفسه، وتفيض بالطرب وتحمل قوافيه البشر والسرور، ويتمازج ظاهر الشعر وباطنه، أو يتوحد شكله ومضمونه، فهيكل المقطعة يضم عناصرها ويربط بينها، إذ ليس كل جزء منها له حدود، وإنما كلها وحدة واحدة، وإذا نما جزء منها تعانق مع غيره، بحيث تتداخل الأعضاء، وما نعنيه بالوحدة العضوية، ليس تسلسل الخواطر فيها، وتدرج المشاعر فحسب، وإنما إلى جانب ذلك تناسق الكلمات والخيالات والصور والتعبير والمعنى وغير ذلك. كذلك نشعر في هذه المقطعة بعدم التفاوت بين ما قاله الشاعر، وما كان يود قوله: فإن ما كان يرغب في تحقيقه تحقق، وهذا عمِل على تأكيد الوحدة بين أعضائها.
     وقصائد الرثاء والهجاء والمديح .. وغيرها يحتشد لها الشاعر، ويتخير لها الوقت المناسب، في معظم الأحوال، وأثناء النظم يراجع ما قاله، ويعدل من أحكامه، ويعمل ما في استطاعته لتنسجم المقاطع مع بعضها البعض، ونظرا لطولها فإنه تتعدد موضوعاتها حتى في إطار وحدة القصيدة.
     أما المقطعة فإنه لقصرها تعبر عن خاطرة، أو ومضة بارقة، أو لمحة خاطفة، أو طرفة من الطرف، أو نكتة مضحكة، أو لقطة سريعة، أو خبر طارئ، أو تكون رد فعل لمسموع أو مقروء، أو أي شيء لم يقصد إليه الشاعر من قبل.
     وفي مقطعة "بغير عنوان"  يحيطنا الشاعر علمًا بأنه قرأ عدة أبيات لأبي ذؤيب الهذلي، أحدثت دويا في نفسه، ولم يفتر تأثيرها، أو تضعف شدتها، ولا ينتهي إلى شىء من الهدوء إلا بعد قوله:
وليلة بتنا يجـــــمع الشـــوق بيننا       فطيـّر لبي واستباح صــــــــــــــــــــوابها
تظل تساقيني الشمول عيونها       وتجمــــــــــــــــع كالأفعى إلى شعابها
فلما تقضى الليل إلا أقلــــــــــــــه       وكاد انبعاث الصبح يبدي غيابها
وتجني على معروفــــــــه منكراته       رددت إليها عنـــــــــد ذاك ثيابهـــــــا
    والأبيات الأربعة واضحة لا تحتاج إلى إبانة، وتنطوي على قصة صغيرة أمدها القص بمقوماته من تمهيد، وسرد أحداث، وشخوص، وحوار وصراع، فمن الكلمات الأولى التي وردت في مطلع المقطعة "وليلة بتنا يجمع الشوق بيننا ...." تدرك أن الشاعر يقص عليك، وكأنه يقول: "ذات ليلة حدث كذا وكذا ..". وهذا زمن القصة، وموضوعها لقاء بين عاشقين في ليلة حافلة بالحركات والمسرات والمتع، ويرويها الشاعر بضمير المتكلم، ويتحدث عن نفسه وصاحبته، وهما بطلا الأقصوصة، ويسرد ما جرى من أحداث وواقعات في هذه الليلة الغرامية، منها نظرات المعشوقة المسكرة، واحتضانها لصاحبها بذراعيها "وتجمع كالأفعى إلى شعابها" ويظل العاشقان على ذلك طيلة الليل، وعند غبش الفجر آذنت بالرحيل، بعد أن قضت أربها.
     والمقطعة فيها حوار خفي أو ضمني وصراع. وهذان يتمثلان في البيت الأخير "وتجني على معروفه منكراته ..." فيرد إليها ثيابها لكي تمضي قبل أن يشرق الصباح، وهذا هو ختام الأقصوصة وآخر الأحداث.
     وهذا يبين لنا كيف أن مقطعة شعرية من أربعة أبيات اتسعت لأقصوصة صغيرة، وهذا يرجع إلى تمهر الشاعر وقدراته، والمفيد أن هذه المقطعة أو الأقصوصة رد فعل لقراءة شعر لأبي ذؤيب، ولم يكن الشاعر يدري قبل القراءة، أن ما سيطالعه قد يحدث جيشانا في قلبه، لم يستطع التخلص منه إلا بهذه الأبيات، فالشاعر يحتشد للقصيدة ويعد لها نفسه، ولكن المقطعة تأتي فجأة.
     كذلك يمكن قراءة مقطعة "رباعية الشوق" على أنها أقصوصة حوارية يتدرج فيها الحوار وفقا لتطور الأحوال.
كذلك فإن قوافي المقطعة أكثر استقرارا وتمكنا وإحكاما من قوافي القصيدة الطويلة، لأن الأبيات القليلة لا تستنفد ذخيرة الشاعر اللغوية وليس هذا فحسب، وإنما هي على طرف لسانه يختم بها بيته في سرعة.
     أما الشاعر في القصيدة فقد يبطئ في العثور على القافية المناسبة، فإذا لم يوفق في الاختيار، فإن معناه يرتبك، أو تأتي قافيته زائدة في البيت دون معني أو إتمام معني، أو يلجأ إلى الإيغال، والإيغال هو إضافة الشاعر كلمة ليصل بها إلى القافية بعد إتمام معني البيت مثل قول شوقي في قصيدة نبوية:
يا لائمي في هواه والهوى قدر       لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
       فمعني البيت يتم عند قوله "لم تعذل" ولأن الوقوف عنده لا يتمم الوزن، ولا يصل إلى القافية، فقد أوغل وأضاف "لم تلم" وهى بمعني " لم تعذل".
     كما أن هذه الإضافة لم تعمل على تحسين البيت، وإنما هى حشو، لذلك فإنه، في غالبية الأحيان، تأتي قوافي المقطعة متممة للوزن، ومناسبة للمعنى، ومسايرة لجو المقطعة العام، ومن هذا قول شاعرنا في مقطعته " اليأس أفضل":
أعيش على وعد أتي من خيالكِ        وكادت تزول النفس عند زيالكِ
ألا خبريني هـــل يكـــون لقــــــــــاؤنا       قريبــــــا، فإنــي قد أرقـــــــت لذلكِ
وإن طالـت الأيام بعـــد، فإنني       أرى اليأس خيرًا من بعيــــد وصالكِ
     فالقارئ بعد أن يلم بالمعنى الوارد في الأبيات لا يشعر بقلق قافية من قوافيه الثلاث، وإنما يدرك أنها تنمي المعنى، وتنوع الإيقاع، وتنغم الأقوال الشعرية، والقافية ليست من زخارف الشعر، وإنما من صلبه، وعدمها انتقاص من الجمال الشعري، فلا شعر بدون قافية، والشاعر الفسل الضحل هو الذي يفتش عنها ويطيل التفتيش، ولا يعثر عليها.
     والقافية المتمكنة لها دور في حفظ الشعر، ثم في روايته، وغنائه، وكل هذا من عوامل بقاء الشعر حيًا، أما الشعر الخالي من القوافي، فلا يُحفظ ولا يُروى ولا يُغنى، وينساه الناس حتى قائله، لأنه فقد أهم أسباب خلوده. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق