الثلاثاء، 26 مارس 2013

المرجعية اللغوية في تصور الضرورة الشعرية عند الدكتور السيد إبراهيم


          أ.د. محمد خليل نصر الله
الأستاذ بآداب بني سويف

تقديـم:
     متمردٌ بطبعه .. وثائرٌ على المألوف إن لم يُصِبْ منه ما يقنعُه؛ هكذا يبدو وهكذا هو في حياته، يَفْجَؤُك منذ الكلمة الأولى بأنها رؤية جديدة، وأنه ليس من عَبَدَة الأفكار والمناهج، وأنه يريد أن يفكر، لا أن يحملَ في رأسه، أو على رأسه آراء الناس، وإفرازات عقولهم.

     بهذه العبارات ونحوها بدأ الدكتور السيد إبراهيم محمد بحثه الموسوم "بالأسلوبية والضرورة الشعرية"؛ ليُحدِّثُ عن تصوره لتلك الظاهرة التي شغلته، منذ أن تلقاها فكرة على يد أساتذته في الجامعة، وهو في سنوات الطَّلَب، يتلقى المحاضرات، ويعيش حياة علمية، لا يدري هو أو غيره ماذا عسى أن يُكتب لهذه الحياة فيما يستقبل من الأيام.
     ومِثْلُ كل متمردٍ ثائر؛ تبدو الأفكار أمامه في ديناميكية متوهجة، والمناهج على غير عادتها متصارعة، وتبدو معها جرأتُه واضحة، وآراؤه مثيرة متدفقة، ومن شأن هذا القبيل من الباحثين المتحمسين أن يختلف الناسُ معهم .. وأن تجد فريقا لهم، وآخر عليهم.
     يرى الدكتور السيد إبراهيم أن "الضرورة في الشعر" ليست بمعنى الاضطرار المرادف للعجز كما هي عند الفقهاء، ولا تعني الخروج على الأصول اللغوية المقررة كما هي عند النحويين، وإنما هي ظاهرة، نشأت وترعرعت عند الشعراء، ثم انحرفت عن تلك النشأة، فرمت بها الأحداث بين قوم غرباء، أرادوا بها غير ما يُرجى منها، فألبست ثوبا غير ثوبها، وتسمت بغير ما تحب من أسمائها، ومن هؤلاء الغرباء: لغويون، وبلاغيون، ونحويون، ومفسرون، وآخرون كثيرون.
     وقد نتج عن ذلك أن أصابها الاضطراب والخلل، فعجزت عن الوفاء بما يرجى منها، وقصرت في أداء مهمتها، ووظيفتها، وتولد لدى الكثيرين إحساس بأنها في حاجة إلى ضوابط تكبح من جماحها، وتُحِد من المشاعر السلبية التي ألمت بها.    
     على هذا النهج من التمرد المرغوب؛ يمضي الناقد "السيد إبراهيم" في بحثه المشار إليه؛ ليكشف لنا عن المعالم اللغوية التي يراها تكمن خلف الظاهرة في جملتها، باعتبارها مظهرا من مظاهر الإرادة الشعرية، تتجلى فيها روح الأديب، ويفهم من خلالها العمل الفني، وإنْ بدا فيه ما يظن أنه خروج على الاستعمال اللغوي العام الذي أَلِفَه الناس، وقعَّد له النحويون، واختلف حوله النقاد والبلاغيون.
     ومن خلال الإشارة إلى جملة من القضايا التي أثارها في التوطئة، والمقدمة؛ يرى أنه يجب أن نتناول القضية في خصوصيتها وتميزها، تبعا للأداء الفني، والموقف النفسي، والسياق الاجتماعي، لتنشط كل عناصر الصياغة مع مضمونها، فتؤدي الغرض الذي يراد منها.
     وفي سبيل تحقيق الهدف من تلك المحاولة؛ وضع لنفسه خارطة طريق، ترتكز على محاور أربعة، هي:
·        الأسلوبية وظاهرة الانحراف في الشعر.
·         ظاهرة الانحراف والوزن الشعري.
·        فلسفة الضرورة الشعرية.
·        مجموعة من المباحث التحليلية.
وأيا كانت المحاولة؛ فإن القارئ يَشَمُّ فيها– وإن لم يصرح صاحبها- رائحة ذلك الاتجاه الذي بدأ يتسلل إلى الدراسات اللغوية والنقدية في النصف الثاني من القرن العشرين، والذي تمحور حول الكشف عن مجموعة من المسالب التي سيطرت على الدراسات اللغوية، وبخاصة ما ارتآه النحويون، ومحاولاتهم للهيمنة على الدرس اللغوي كله، والتي كان من أهم نتائجها الفصل بين اللغة والموقف الاجتماعي، وإهمال جانبي المعنى والمقام.
     وفي هذا الإطار؛ سوف نمضي مع صاحب تلك المحاولة- نوافقه أو نخالفه- نستشرف معه آفاق الفكرة كما ارتآها، ونحاول كما حاول استنبات البذور من كل تربة صالحة، لنعثر على الجذور التي نبتت في أرضها تلك الظاهرة ثم نتتبعها لنرقبها سويا، ونرى كيف أنها نمت حتى استوت، دوحة باسقة، لا تكتم عطرا، ولا تبخل بأريج. 

     لقد بدأ الحديث عن فكرته بإشارة مباشرة إلى الموقف المتصادم بين النحويين والشعراء، فالنحويون يسمون الظاهرة بالضرورة، ولا يتحرجون، وهو يرى- دون أن يتحرج أيضا- أنها إرادة شعرية، نشأت من طبيعة اللغة، وفي أحضانها، وتبلورت فكرتها الأساسية من خلال الاعتداد بالظاهرة اللغوية بوجه عام، باعتبارها ظاهرة عربية أصيلة، أُشرِب لبانها الشعراء، وأخلصوا لها، في حين أن موقف النحويين يقوم على ثقافة الأعاجم؛ لأن أكثرهم- باستثناء بعض أصحاب الطبقة الأولى- كان من أولئك الموالي الذين وفدوا على البيئة العربية، وتأثروا بلغتها وثقافتها.
     ومن خلال بعض المواقف الطريفة والظريفة بين نحويين وشعراء؛ راح يعمق فكرته، ويؤكد الفَيْنة بعد الفينة أن التفسير النحوي لا ينهض للوفاء بالمطالب التي يريد أن يبلغها الشعراء بشعرهم، والمواقع التي يأملونها للغتهم، وانتهي إلى القول بأن الشعراء هم الذين وقفوا يذودون عن لغتهم، ويدفعون أو يدافعون عن شعرهم كائنا أجنبيا غريبا، يريد أن يعتدي عليهم؛ إن لم يكن قد اعتدى بالفعل، وأن يغزوهم في عقر ديارهم.
     ثم عقَّب على ذلك بأن أساس القضية كما يراها أن الهوة بين الفريقين متسعة، وأن الأغراض متباينة، فهؤلاء الشعراء قوم من السادة والأحرار، مطبوعون على فطرتهم، يجري في عروقهم الدم العربي، ويعيشون في أرض عربية، وأما أولئك النحاة فأكثرهم قوم من الموالي، يحتالون لمنطقهم، ويجري في عروقهم دم أعجمي، في أرض تشب بها نيران المجوس.
     وينتهي من تلك المقارنات أو المقاربات إلى فكرة تمخضت لديه، مؤداها أن الشعراء تكفلوا بحماية اللغة وديمومتها، أمام محاولات النحويين لتجميد اللغة والسيطرة عليها.
     وأمام الأدبيات الكثيرة التي تذهب إلى أن القرآن الكريم كان هو الدافع الأول لنشأة النحو العربي، وبالتالي قد يظن أحد أنه هو المسئول عن تجميد اللغة؛ يذهب إلى أن هذا القول يجافي الحقيقة، وأنه يجب أن نفرق بين أمرين مهمين: القرآن الكريم باعتباره لسانا عربيا خالصا، غذَّى اللغة، وأمدها بعناصر النمو والبقاء، وأبان عما فيها من العلاقات الروحية المختلفة، والدراسات القرآنية التي دخلها الضيم هي أيضا من نفس الجهة التي دخل منها إلى اللغة.
     ولتأكيد ذلك عقد مقارنة بين أبي عمرو بن العلاء من جانب، وعبد الله بن أبي إسحق، وعيسى بن عمر من جانب آخر، فقد كان الأول عربيا خالصا، يعتد بما تقوله العرب، ويسلم لها تسليما مطلقا، وهو من القراء، وعلى علم كافٍ بكلام العرب ولغاتهم، بينما كان الفريق الآخر يطعن على العرب، ويقف من لغتهم موقفا مختلف الأشكال والألوان.
     ولم يشفع للنحاة– عند الباحث- أن البدايات الأولى للنحو العربي كانت عربية خالصة على يد أبي الأسود الدؤلي ورفاقه، وأن الخليل بن أحمد كان لا يؤمن بالقياس  وأن كثيرا من النحويين هم الذين أدركوا أن أقيسة النحو قاصرة عن حل مشكلات العربية، وعن وضع الحلول الكفيلة بإنهاء الصراع بين مجتمعاتها.
     وبما يشبه الدفاع المؤقت عن النحويين الأوائل؛ التمس لهم بعض العذر فيما عرف عنهم من قصور، وأرجعه إلى عاملين بعيدين عنهما كل البعد: عامل يتعلق بطبيعة اللغة، واستحالة استقرائهم لها، بسبب اتساعها، وكثرة قبائلها، والعامل الآخر يتعلق بالنحو، وطبيعة الغرض منه؛ لأنه بُني على الأكثر من كلامهم، في محاولة لضبط لسانهم، وبقي القليل والنادر مبعثرا عند القبائل، خارج حدود القيود والمعايير.
     وفي التفاتة سريعة؛ عاد إلى الحديث عن إفلاس بعض النحويين، واتساع الهوة بين النحو واللغة، وصعوبة سيطرته عليها بقوانين جامعة، وذكر في ذلك بعض المواقف، التي تؤيد فكرته، وتظهر كيف عجز النحو في بعض المراحل عن أداء رسالته.
     وهكذا؛ يمضي، يُراوِحُ بين هؤلاء وأولئك؛ فيثني على سيبويه في تصوره للضرورة الشعرية، وينحي باللائمة الكبرى على الـمــُحْدَثين في فكرتهم الناقصة، أو الخاطئة عن القياس، ومعاييره الدقيقة المختزنة في الذهن حسب النماذج الكلامية التي تختزنها اللغة.
     ومن خلال ذلك؛ أثني على "سوسير" ونظريته في التفرقة بين ما يطلق عليه اسم اللغة، وما يسمى بالكلام، وأبان كيف أن اللغة نظام محكم، ليس له وجود حسي مباشر، وليس كما مبعثرا، أو متراكما من المحصول اللغوي الناتج من استعمالات أفراد الناطقين بها، بينما الكلام مظهر واقعي، يتجلى في كل استخدامات الناس للغة في الحياة.
    وكذلك يثني على تشومسكي ونظريته التوليدية التي تقوم على عنصرين متباينين في العملية اللغوية، هما: الثبات، والتغير، ويَعْبُر من خلال تلك الجهة إلى تناول طبيعة اتصال الشاعر بالتراث، وما يجب أن تكون عليه نظرته إليه، ومعالجته له.
    وينتهي إلى أن الشاعر قد يناهض الأعراف اللغوية المستقرة التي يعرفها النحويون؛ لأنها لم تعد تسعى في خدمته، ولم تحقق له ما يرجوه من شعره، ولذلك يرى أن رد الظاهرة الشعرية إلى مستوى مفروض من التعبير يعتبر تجنيا على اللغة بوجه عام، وعلى الشعر بوجه خاص، وعندئذ لا يكون الشعراء هم الذين يتجنون على اللغة بضروراتهم، وإنما يكونون هم حماتها، والمدافعون عنها أمام الذين يريدون جمودها، وهم يحسبون أنهم يحسنون إليها، ويذودون عن حياضها.
     وعلى هذا النحو من المراوحة أو المزاوجة؛ يمضي ليتحدث عن علاقة الضرورة الشعرية بالوزن الشعري، وعن فلسفتها، ثم يذكر بعض النماذج التحليلية المختارة من التراث العربي الرائع، لتخدم الفكرة، وتؤيد ما ذهب إليه.
     وفي الخاتمة؛ يعود ليؤكد من جديد أن الضرورة الشعرية- وإن كان يُنظر إليها على أنها مظهر من مظاهر الخروج على الاستعمال المعتاد للغة– فليست إلا تعبيرا عن الإرادة الشعرية الخلاقة التي تتجلى بها الخصائص الفردية للأدب والأديب، ومن ثَمَّ فهي ضرورة للعمل الأدبي، وليست من ضرائره كما يتصورها الكثيرون.
    وبهذا المعنى؛ فإن تلك الدراسة تختلف عن النظرة البلاغية القديمة التي ترى أن الضرورة من الأشياء التي ينبغي للشاعر أن يتجنبها؛ لأنها تشين الكلام، وتذهب بروائه، وأنها دليل على قصور لغة الشاعر وعجزه، ومظهر من مظاهر الضعف اللغوي عنده.
     وفي نهاية هذه العجالة؛ لا أود ونحن نحتفي بالصديق العزيز، والناقد المعروف "الأستاذ الدكتور السيد إبراهيم" أن نناقشه في آرائه، أو نحاسبه عليها؛ لأن ذلك لا يتفق ومناسبة الاحتفاء، ولكن يكفي أن أهمس إليه في إيجاز ببعض الأمور التي لا تخلو من دلالة؛ بعيدا عن الآراء الكثيرة التي أثارها، ومن ذلك:
-أن البدايات الأولى للنقد ومعاييره لم تنشأ على يد النحويين، وإنما صنعها الشعراء أنفسهم في أسواقهم ومنتدياتهم قبل أن يوجد النحو والنحويون، يوم أن كانت تُنصب القباب للنابغة وغيره ليستمع إلى الشعراء، ويحكم بالفطرة والسليقة لهم أو عليهم.
-أن الشعراء– وبخاصة الكبار- لم يستجيبوا للنحو ولا للنحويين، بل ولا للنقاد، وأعمالهم تشهد بذلك، ولا يزال المتأخرون منهم يرددون مع المتنبي، وهو يتحدى النقاد أجمعين قوله:
أنامُ مِلءَ جفوني عن شواردها      ويسهر الخلق جراها ويُختصَمُ
-أن مباحث علم المعاني ترجع بصلة وثيقة إلى علم النحو، وليس أدل على ذلك من أن ترجمة كثير من البلاغيين مثل عبد القاهر الجرجاني قد التصق بها لقب: النحوي؛ وأن أي مبحث من مباحث علم المعاني لا يخلو من حديث في النحو، فالنحاة ليسوا طائفة مستقلة، وإنما هم قراء، وبلاغيون، وأدباء.
-أن النحو يمكن أن يمثل القواعد المعيارية للغة، ولكن القدرات الفنية دائما أرحب من أن تحدها الرسوم، أو تحوطها القواعد والحدود؛ ليبقى الأديب، والمتلقي جانبين مهمين لا يمكن إغفالهما في أي عمل أدبي على الإطلاق، وليبقى الأدب دائما انعكاسا لذات متكلمة، تعيش في مجتمع حي متطور، ومتجدد.
-أن هناك مساحة مشتركة بين النحو والبلاغة، وليس ثمة غرابة في وجود مباحث مشتركة بين الجانبين، وطبيعة الدراسة هي التي تفرد كل جانب بما يجب أن يركز عليه دون أن يلام أحدهما أو كلاهما على موقفه من صاحبه ولكل منهما مباحثه وميادينه.
     وأخيرا؛ متَّع الله الصديق العزيز بعلمه، وفكره؛ فقد أثار فينا شيئا، ونبه فينا غافلا، كان خافيا، واجتهد فيما يجب أن يُجتهد فيه، فاستحق منا حسن الذكر، وموفور الدعاء والشكر، فسلام عليه عَلَمًا من أعلام النقد، وفارسا من فرسان العربية، بين إخوانه من العلماء والباحثين. 
                                                

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق