الثلاثاء، 26 مارس 2013

من التحليل البنيوي إلى التعددية النصية، والثقافية


محمد سمير عبد السلام:
     تكشف أبحاث الناقد المصري الدكتور السيد إبراهيم عن اهتمامه بتبويب الاتجاهات النقدية الحديثة، والمعاصرة؛ مثل البنيوية، والتطورات اللاحقة للنقد النصي عند بارت، وغيره، والاتجاهات الجمالية، والثقافية، وعلاقة الأدب بمدلول العولمة، وتداعياته في الأدب، والسياق الاجتماعي، وكذلك التحليل النقدي لتلك الاتجاهات في شكولها المختلفة، وعلاقتها بالثقافة العربية، والأدب العربي المعاصر، وإعادة إنتاجها في الدراسات التطبيقية التي قدمها للنصوص العربية؛
ومن ثم تؤسس هذه الأبحاث للمراجعة المستمرة لمدلول النقد، واتجاهاته المعنية بمسار تأويلي بعينه، ومدى التعددية المفتوحة للمعنى تبعا للتطبيقات النسبية، والخلفيات المعرفية المتباينة للنقاد، والتي تبدأ من التفاعلية المعقدة للمعنى في دوال النص نفسه.
     إننا– إذا- أمام استراتيجيتين أساسيتين تبرزهما تلك الدراسات التي ترتكز على نقد المنهج، وإعادة إنتاجه في أكثر من ثقافة، وتطبقه على نصوص متباينة، وبخاصة الأبحاث ذات الطابع المستقل الذي يسعى للأصالة، والكشف عن المدلول الإنساني في النصوص الأدبية، والنقدية؛ مثل أعمال الناقد الدكتور السيد إبراهيم، فضلا عن طابعها التعددي في التقديم، والتطبيق، وهما:
     الأولى: التفاعل مع ثقافة الآخر؛ فالاستراتيجيات النقدية، وأدواتها التطبيقية تبرز مدى تطور الوعي بالنص، والكشف عن مراحل العقل النقدي نفسه، وأسئلته الذاتية التي تراجع بنيته الإنسانية، وتشكلها الفريد في الثقافات المتباينة.
     الثانية: تفجير الدلالات المتنوعة، والكامنة في الدوال النصية انطلاقا من إعادة إنتاج المعنى من جهة، وتعددية مسارات النقد التي تسمح بوجود فراغ تأويلي دائما يسمح بانتشار الدلالة، واختلافها، ويشارك فيه العقل النقدي الذي يميل إلى تأكيد الأصالة، والاختلاف.
     ويمكننا رصد ست استراتيجيات نقدية جزئية تتميز بها بعض أبحاث الدكتور السيد إبراهيم النقدية؛ هي:
أولا: التحليل النقدي.
ثانيا: المقارنة بين التوجهات النقدية.
ثالثا: نقد النقد.
رابعا: من الأبنية السردية إلى التعددية الفكرية، و الثقافية.
خامسا: الترجمة.
سادسا: التفاعل بين النص، والسياق الثقافي.
أولا: التحليل النقدي:
     يقوم التحليل النقدي الشارح على إبراز المسار الفكري لاتجاه نقدي بعينه؛ ومن ثم تحليل العناصر الفرعية لذلك المسار عند الرواد، ونصوصهم التطبيقية، وقد قدم الناقد الدكتور السيد إبراهيم أهم المسارات الفكرية– تنظيرا وتطبيقا– فيما يخص فن الرواية في كتابه (نظرية الرواية- دراسة لمناهج النقد الأدبي في معالجة فن القصة)؛ إذ عرض لتنوع الأبنية الفنية القائمة على الوظائف المتكررة، وطرق تفسيرها في النصوص القصصية، والحكايات القديمة.
     يتتبع الناقد– إذاً– نشوء الفكر النقدي البنيوي لفن القصة، وتطوره من خلال ثلاث مسارات، تبدأ بتكرار وظائف بعينها في عدد غير محدود في النصوص السردية عند بروب، ثم التحليل البنيوي القائم على التقابل الضدي عند جريماس، ثم التفسير النحوي للأبنية القصصية عند تودوروف.
في سياق عرضه لمبدأ الوظائف المتكررة عند بروب، يرتكز الناقد على تمثيلات بروب- في كتابه مورفولوجيا الحكاية الشعبية-  لتواتر شخصية الشرير، وما يرتبط بها من صفات، وتجلياتها المختلفة في صور الساحرة، أو التنين، أو الغول، وغيرها(1).
     ويقدم الناقد مبدأ التقابل الضدي عند جريماس من خلال أزواج الفاعل و المفعول، والمرسل والمستقبل، والمعين والمناوئ، ثم يعرض لمدلول النظيرة، أو الدلالة التي تمثل التجانس، ودواله المختلفة في النص، من خلال تطبيق جريماس لها على العالم المتخيل للروائي جورج برنانوس، في كتاب له بعنوان علم الدلالة البنيوي، ثم يعزز من أن هدف جريماس النهائي هو اكتشاف ميكانيزم توليد القصة مثلما فعل بروب(2).
     ثم ينتقل إلى مبدأ التفسير النحوي للأبنية القصصية عند تودوروف، و تطبيقاته على قصص الديكاميرون لبوكاتشيو؛ فالجانب التعريفي الذي يخص الاسم في اللغة يتواتر في الأعلام، والضمائر، أما النكرة، أو النعوت غير المحددة تدخل في الجانب الوصفي، ثم تمييزه للحبكة بين حالتي التوازن، و انعدام التوازن، وبينهما أحداث المرور من حالة لأخرى(3).
     يرتكز الناقد– إذا– في استراتيجية التحليل النقدي الشارح على تعددية مبدأ التواتر في الفكر البنيوي، وتجلياته المختلفة في التطبيق، وكذلك التحامه الفعلي بالسياق النصي للقصص، والحكايات.
ثانيا: المقارنة بين التوجهات النقدية:
     تقوم استراتيجية المقارنة هنا على مبدأ التنوع الأساسي في اللغة النقدية الخاصة بوصف تقنيات السرد، أو بويطيقا الرواية من جهة، وكذلك اختلاف التوجهات الفكرية، والتأويلية للنقد الأدبي في تناول النصوص الكلاسيكية، أو الحداثية، أو النصوص التي تجمع بين الكلاسيكية، والحداثة من جهة أخرى.
     وقد عرض الناقد للاختلاف في المصطلح النقدي الخاص بتقنيات السرد، وبخاصة وجهة النظر التي يطلق عليها جيرار جينيت البؤرة في كتابه (خطاب الحكاية) الذي تناول فيه تقنيات السرد المختلفة عند مارسيل بروست، ثم تقسيمه للتبئير بين الداخلي، والداخلي المتعدد، والخارجي، والنص غير القائم على التبئير في النصوص التقليدية، ويعرض للغة نقدية مختلفة للتقنية نفسها عند رولان بارت الذي يقسم المنظور إلى شخصي، وغير شخصي(4).
     وأعتقد أن اختلاف التوصيف النقدي لتقنيات القص عند النقاد، يضيف ثراء للعملية النقدية، ويكشف عن تطور البحث البنيوي، وعدم وصوله لنقطة حاسمة، وصالحة للنصوص جميعها.
     ولم يكتف الناقد بإبراز المقارنات التنظيرية للغة النقد، واتجاهاته، ولكنه تجاوزها إلى الرؤى التطبيقية المختلفة للنص الواحد، وقد أسهمت استراتيجية الترجمة في الكشف عن هوامش تأويلية جديدة يمكن للقارئ أن يضيفها للنص، فضلا عن استعانته بالتوجهات النقدية المبنية على طرق التعامل مع النصوص الكلاسيكية، أو الحداثية.
     ويترجم الناقد قصة (قطة في المطر) لأرنست همنجواي، ثم يقارن بين ثلاثة آراء مختلفة حولها من النقد التطبيقي، وترتكز المقارنة على التفاوت في النظر إلى النص تبعا لتوجهه الفني، أو اعتبارات القراءة، وآليات الكتابة في بنيته، وكذلك المفارقة بين نزوعه نحو الواقعية، أو إبهام المعنى في نصوص الحداثة.
يرتكز نص همنجواي على الزوجة الأمريكية التي تبحث عن قطتها في المطر، وانصراف زوجها عنها بالقراءة، ثم تطلعها لمظهرها الأنثوي في المرآة، وتعاون صاحب الفندق الإيطالي في إيجاد قطة كبيرة لها.
ويعرض الناقد لرأي ديفيد لودج في النص؛ إذ يرى أنه يجمع بين الكلاسيكية ، والحداثة، ولا يوجد به مفتاح واحد للمعنى، ويتميز بالإبهام، واعتراضاته على آراء النقاد التي ذهبت في اتجاه بحث البطلة عن خصوبة، أو أنها عاقر.
     ويتناول رأى الناقد هاجوبيان الذي يفسر النص انطلاقا من افتقار البطلة للأطفال، وحاجتها للخصوبة في علامات الحديقة، والمطر.
     ويذكر رأي كارلوس بيكر الذي يفسر موقف البطلة ببحثها عن حالة الاستقرار البورجوازي في بحثها عن مباهج الحياة، والقطة، وجمالها الذاتي(5).
     تقوم التباينات بين الرؤى النقدية– إذاً– على ما يراه الناقد من علامات ذات طابع مركزي في النص من جهة، وعلى تأثير الاتجاه الفني للنص، والناقد معا من جهة أخرى؛ فاعتراضات لودج تنبع من أصالة التعددية في النص المكتوب، والانحياز النقدي معا في خطوة باتجاه انفتاح النقد النصي.
     وأرى أن هناك هوامش تأويلية أخرى سمحت بها ترجمة الناقد للنص كجزء من استراتيجيات المقارنة؛ إذ تعزز من المبدأ الحواري الذي ينبع مما هو مكتوب باتجاه القارئ، دون التخلي عن أهمية المنجز النقدي للنظريات المختلفة.
     وأعتقد أن النص يقدم لنا مجموعة من الإشارات المتوترة بالأساس بين تصاعد الهوية الأنثوية المستقلة المميزة للفكر النسائي، وكذلك الفقدان المستمر لتلك الهوية من خلال ضياع ما يرتبط بها من تفاصيل صغيرة؛ مثل القطة، وتفاصيل الزينة الجسدية، ودرجة اهتمام الرجل، و غيرها.
ثالثا: نقد النقد:
     ترتكز استراتيجية نقد النقد هنا على التفاعل بين الناقد، وما يعرضه من اتجاه نقدي ذي إضافة نسبية، وخاصة بسياق ثقافي، أو فني متجدد، وقد قدم الدكتور السيد إبراهيم لمبدأ التعدد، والاختلاف اللانهائي في الدلالة في سياق تطور النقد النصي، وتجاوزه للبنيوية في دراسة (إس زد-S/Z) لرولان بارت، ويعزز الناقد هنا من أصالة التعدد عند بارت في تناميه بالمكتوب لا المقروء في لغة النقد نفسها.
يعرض الناقد في نهاية كتابه (نظرية الرواية) للتحليلات الإبداعية التي قام بها رولان بارت لقصة (سراسين) لبلزاك، وكأنها بداية لتعددية مفتوحة يتجه إليها النقد بعد رصده للأبنية المتواترة في مجموعة أفقية من النصوص في نحو الرواية، أو تقنيات نص بعينه في بويطيقا الرواية، وهو ما يميز استراتيجية نقد النقد التي تضعه في سياق ثقافي، وفني له علاقات متباينة بما سبقه من اتجاهات، وما يحتمله مستقبلي من تطوير لمبدا فكري بعينه.
     يقوم نص سراسين لبلزاك على علاقة حب ناقصة، وتداخلية بين ساراسين، وزامبينلا، وهو رجل يمثل دور امرأة في النص، ويتطور النص في اتجاه التداخل بين الشخصيتين.
     ويعرض الناقد لمبدأ التعددية القائمة على الشفرات التفسيرية التي أبدعها بارت في تناوله للنص مثل زيادة الحرف الدال على الأنوثة في البطل/سراسين، ومن ثم إمكانية إضافة دال التأنيث للشخصية الملتبسة التي ستتفاعل مع شخص آخر يجمع بين الأنوثة، والذكورة، ثم التفسير الإبداعي لصوت الزاي، وشكلها Z؛ فعلى مستوى الرسم يرى بارت أنها تشبه النصل المعقوف، ويدل هنا على البتر، أو الخصاء، وعلى المستوى الصوتي لها حز يشبه السوط، أو وخز الحشرة المتسلطة. وهنا يقارن الناقد بين استراتيجية بارت التعددية، وما ذهب إليه ابن جني– جزئيا– من معان للأصوات(6).
     وأرى أن تصورات بارت الإبداعية/النقدية عن النص تتضح نظريا بشكل يوحي بالتجاوز المستمر لأي بنية مستقلة محتملة في نسيجه، وهو ما يكسب هذا النوع من النقد قدرة على الخروج من أسر المعنى الأحادي.
     يرى بارت في كتابه (لذة النص) أن النص يقضي على كل لغة واصفة، وبهذا يكون نصا؛ فلا ينتمي إلى صوت، أو علم، أو سبب، أو مؤسسة تقع خلفه، وهو يهدم– إلى حد التناقض– فئته الاستدلالية الخاصة أيضا(7).
     وأرى أن تنظيرات بارت للنص توحي أننا أمام استراتيجية إبداعية للحضور المتنوع المميز للغة النص، ودلالاته عن طريق الخاصية النقدية للمعنى، ولأي بنية فنية يحتملها النص في تلك اللحظة الغنية بالتأويلات.
     وفي بحثه (لطفي عبد البديع مؤسس النقد الاستطيقي)– ضمن المؤتمر الأدبي الثامن لإقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد– يتناول الدكتور السيد إبراهيم النقد الجمالي، وعلاقته بعلم اللغة، والأبحاث الأسلوبية القائمة على الحدس بين السياقين النظري، والتطبيقي، وفي سياق ما قدمه لطفي عبد البديع من إضافات في هذا الاتجاه.
     إنه يبحث في أصول توجهات عبد البديع، ويضعها في سياق تطويره للنقد العربي القائم على مفاهيم الحدس الجمالي، واختصاصه باللغة الشعرية ذات الحساسية الخاصة.
يعرض الناقد لتحليل عبد البديع لبيتين للشاعر العربي ذي الرمة؛ إذ يقول:
تريك بياض لبتها ووجهــــــــــا     كقرن الشمس أشرق ثم زالا
أصــاب خصاصة فبدا كليلا     كلا و انغــــــــل سائره انغــــلالا
يرى عبد البديع أن "لا" تشير إلى السحاب الذي مزقته الشمس، مثلما فعلت المحبوبة بقلب الشاعر(8).
     لقد ارتكز الناقد الدكتور السيد إبراهيم على مبدأ الإدراك الحدسي الفطري المميز للصورة الشعرية في تطبيقات عبد البديع، وأثر ذلك المبدأ في تطوير الوعي بالشعر العربي القديم انطلاقا من نقد ذلك التوجه النقدي، ووضعه في سياقه الثقافي، أو الفكري.
رابعا: من الأبنية السردية إلى التعددية الفكرية، والثقافية.
     في هذه الاستراتيجية يرتكز الناقد على تجاوز بنية القص نفسها إلى ما يتجاوزها من تعددية علاماتية في النص ما بعد الحداثي مثلا، أو في فعالية القراءة التأويلية للقصة؛ ومن ثم فإننا إزاء إعادة تشكيل للبنية في مسارات فكرية تقوم على لا مركزية الدال في بنية النص من جهة، وتفكيك بنية الحكاية عبر الدور الإيجابي للقارئ من جهة أخرى.
     يناقش الناقد الآراء المختلفة التي طرحها روبرت سكولز حول الملكة القصصية التي تضع القارئ في حالة خضوع، واستسلام لأحداث القصة، وسبل تجاوزها في الأعمال القائمة على تفكيك المركز، والامتلاء عن طريق انتشار تشكيلات الصدفة في الفراغ، والصمت مثل أعمال جون كيج، وغيرها، واحتمالية التداخل بصورة أخرى مع الملكة القصصية في فعل التكرار، وكذلك قدرة التحليل العلاماتي على إعادة بناء القصة في سياقات جديدة، وفعالة في إنتاج الدلالة(9).
     إن الاتجاهات الفنية الجديدة، وكذلك النقد السيميوطيقي الذي يعيد بناء العلامة طبقا لأفكار، واتجاهات فلسفية، وثقافية جديدة، قد وضعت بنية القص في موضع سؤال دائم، وكذلك أخرجت التوجهات النقدية من الاقتصار على وصف البنية، واكتشافها بطرق أفقية، أو رأسية؛ فالتكرار يسمح بدراسة أبنية الوعي المشتركة من خلال خطاب القص، ولكنه ينفتح على ما وراء القص نفسه عند تحرير العلامة من مركزية الملكة القصصية، وهو ما نلاحظه بوضوح في التأويلية الجديدة، والتفكيك، والتلقي، وغيرها.
خامسا: الترجمة:
     تتيح استراتيجية الترجمة الكشف عن إمكانات تأويلية عديدة تفجرها علامات النص المكتوب نفسه في القراءات المحتملة، والتي يشترك في إنتاجها المنظرون، والنقاد، والقراء، و أن الناقد يريد أن يفتح نقاشا مفتوحا حول النص؛ لتستمر تعددية إنتاج المعاني، والأبنية في المستقبل، وبخاصة حول النصوص التي لم تترجم من قبل إلى العربية.
     وقد قدم الناقد ترجمات لنصوص قصصية عديدة في كتابه (نظرية الرواية)؛ مثل (إيفيلين) لجيمس جويس، و (قصة قصيرة جدا) لأرنست همنجواي، و (سراسين) لبلزاك.
     وأرى أن استراتيجية الترجمة هنا هي جزء من السياق النقدي، والفكري للكتاب بوجه عام؛ إذ ترتبط بنقد النقد الذي يعتمد على وضع الاتجاه النقدي في سياقه الفكري، واكتشاف إضافاته، وتسهم الترجمة في إبراز ما أضافه النص النقدي من إضافات تفسيرية جديدة لم تكن واضحة في المستوى الظاهر من النص، وقد لاحظت ذلك بقوة في الترجمة الكاملة لنص (سراسين) لبلزاك؛ فقد أسست الترجمة– بشكل غير مباشر– في إظهار ما أضافه النقد النصي عند رولان بارت من شفرات تفسيرية إبداعية، وجديدة في قراءة النص الكلاسيكي.
     وترتبط الترجمة أيضا باستراتيجية المقارنة بين الاتجاهات النقدية؛ فالنص يكشف تعددية الأبنية المحتملة عند النقاد، ويلقي ضوءا كاشفا على جذرية الاختلاف في الوعي النقدي من جهة، ويترك هامشا تفسيريا محتملا لدى القارئ من جهة أخرى.
     وقد أسهمت الترجمة التي قدمها الناقد في إبراز الإيحاءات التي تكمن خلف العلامات اللغوية عبر وسيط اللغة الجديدة/المترجم إليها، ولنقرأ هذا المقطع من ترجمة الناقد لقصة (سراسين) لبلزاك في نهاية الكتاب. يقول بلزاك:
     "في تلك اللحظة لو أن شيطانا مد قاع جهنم بين سراسين، و بين الزمبينلا لعبرها هذا بقفزة واحدة. كان غرام النحات كأفراس الآلهة التي وصفها هوميروس يجتاز المسافات الواسعة في لمحة عين"(10).
     يصف بلزاك في المقطع السابق قوة العشق الناقص، والتداخلي المميز لشخصية سراسين باتجاه الكائن الملتبس بين الذكورة، والأنوثة/ زامبينلا، وقد عززت الترجمة من قوة العشق، وإيماءاته الغريزية غير العقلانية.
سادسا: التفاعل بين النص، والسياق الثقافي:
     تقوم استراتيجية التفاعل بين النص، والسياق الثقافي على العلاقة المعقدة بين النص، والمؤثرات الاجتماعية، والفكرية، والثقافية للمجتمعين المحلي، والعالمي، وقد كانت هذه الاستراتيجية محورا للدراسات الثقافية بتوجهاتها المتباينة التي ارتبطت بالبنيوية، وما بعدها، وما بعد الحداثة، والنقد الاجتماعي الجديد، وغيرها، وأرى أنها طريقة بالغة النسبية، والتعقيد، وتسمح الآن بتنوع كبير في الدلالة؛ نظرا للتباين المستمر بين السياقات الثقافية العالمية، وشكولها المتنوعة من جهة، وعوامل التأثير، والتمرد الثقافي الكامنة في السياق النصي للأدب من جهة أخرى؛ مما يسمح بانتشار التأويلات الثقافية المحتملة، والكشف عن تناقضاتها الذاتية، وطرق تجليها المختلفة بين النص، والواقع.
     وفي بحثه (الثقافة الوطنية، وثقافة العولمة)– ضمن الدورة الخامسة والعشرين لمؤتمر أدباء مصر 2010- يعرض الناقد الدكتور السيد إبراهيم لمدلول العولمة في سياق ثقافي جزئي للمصطلح ضمن مناقشته لآراء جارودي؛ إذ تتجه إلى نموذج الهيمنة، والاستغلال غير الإنساني للتكنولوجيا، وهيمنة القلة على رأس المال، وإحساس المهمشين بعبثية الحياة، وغيرها(11).
     وقد قدم الناقد قراءة لرواية (زهور بلاستيك) للروائي المصري شريف مليكة، وارتكزت قراءته للنص على مبدأ الزيف الشكلي لعناصر الحياة في ذلك السياق الجزئي المشوه للحياة المعاصرة، والتي يكشف عنها النص في إطار النقد، ويرى الناقد أن النص يكشف عن الحضارة الشكلية الفارغة من المضمون، وقد أحلت التشبيه الشكلي محل الواقع، وهو يناظر البَوّ ، أو الدمية الصغيرة التي تعوض الناقة عن فقد ولدها في الثقافة العربية(12).
     وأرى أن المسار الفكري الذي اتخذه الناقد إزاء ذلك النموذج من استخدام العولمة، وما يحويه من شكلية تشبيهية للحياة يعكس نقطة فلسفية مهمة في تطور الفكر العالمي؛ وهي الأزمات المتواترة التي صاحبت فكرة (الإنسان) طوال فترة النهضة، وتطور الحداثة، ثم لجوء ما بعد الحداثة إلى السياق الكوني المتجاوز لمركزية الإنسان دون التخلي عن الإيمان به، ولكن أعادت قراءته في صور أكثر جزئية من الحداثة.
     إننا– إذاً– أمام استخدامات متناقضة، ومعقدة للمصطلح؛ فالأدب العالمي، والنزعات العالمية المعتدلة عند إيهاب حسن مثلا تنبع من أصالة إنسانية، ومن تسامح حضاري تعديلي للعولمة، أما السياق المضاد للجانب الإنساني فهو يتخلى عن المدلول المحرك للنهضة؛ ومن ثم تهدف الخطابات اليسارية، والأدبية العالمية إلى نبذه، والتمرد عليه.
     ولننظر إلى فكرة التشبيهات عند بودريار، والتي يرى أنها  تسبق الواقع الآن، ويفند مدلول الحقيقي، ويفكك أصالته من خلال عنصر الاختفاء، والاندماج بالأسطوري، ثم يفكك المحاكاة بكونها نموذجا لواقع فائق الآن(13).
     التشبيه عند بودريار يثور على سياقه الشكلي، ويلتبس بالحقيقي الذي يخرج من بنيته المغلقة؛ ومن ثم فالعودة إلى الواقع عنده ترتبط بالأصالة الإبداعية التي تسبق الشكول المغلقة الثابتة، وكذلك الزائفة للواقع، والصورة معا.
     تتواتر– إذاً– الخطابات التعديلية لكل مدلول مركزي في الدراسات الثقافية المعاصرة؛ فمفاهيم الواقع، والتشبيه، والفن، والعالم صارت مصدرا للمراجعة المستمرة تبعا لحضورها الثقافي الجزئي.
**************************
هوامش:
(1)    راجع / د السيد إبراهيم / نظرية الرواية / دار غريب بالقاهرة / 1998 ص 16 .
(2)    راجع / السابق ص 28 و 29 و 30 و 39 .
(3)    راجع / السابق ص 45 و 46 .
(4)    راجع / السابق ص 145 و 177 .
(5)    راجع / السابق ص 220 و 229 .
(6)    راجع / السابق ص 244 و 250 .
(7)    راجع / رولان بارت / لذة النص / ترجمة د منذر عياشي / مركز الإنماء الحضاري بسوريا مع لوسوي بباريس 1992 ص 61.
(8)    راجع / د السيد إبراهيم / لطفي عبد البديع مؤسس النقد الاستطيقي / ضمن كتاب (الثقافة و الجامعة المصرية)– المؤتمر الأدبي الثامن لإقليم القاهرة الكبرى، وشمال الصعيد 2008 ص 181 .
(9)    راجع / د السيد إبراهيم / نظرية الرواية من 190 إلى 192 .
(10)   راجع / بلزاك / سراسين / ترجمة د السيد إبراهيم / ضمن كتاب نظرية الرواية ص 276 .
(11)   راجع / د السيد إبراهيم / الثقافة الوطنية و ثقافة العولمة / ضمن كتاب (تغيرات الثقافة .. تحولات الواقع) – الدورة الخامسة و العشرون لمؤتمر أدباء مصر 2010 ص 112 و 113.
(12)   راجع / السابق / ص 125 و 126 .
(13)  
Read / Jean Baudrillard, Selected Writings, ed. Mark Poster (Stanford; Stanford University Press - pp.166-184.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق