الثلاثاء، 26 مارس 2013

"ليـنـور" للشاعر السيد إبراهيم


  بقلم د. يوسف نوفل
    للشاعر السيد إبراهيم ديوانان يسبقان هذا الديوان هما: صلوات العشاق(1)، وعبير الرياض(2)، ثم الديوان الذي بين أيدينا (لينور)(3). وهو ديوان يستبطن أعماق تجربة الإنسان المعاصر في عصر (الغرابية)، حتى أوشك الناس أن يكونوا جميعا (غربانا)، أو مسّتْهم (اللعنة الغرابية). وتتجسد تلك الدلالات من خلال آليات فنية متعددة بين:
العنوان، فالنصوص المستعارة للصدارة حتى صارت جزءا من الديوان عن طريق الاقتباس، ثم نصوص الديوان المتعاقبة بتنوع إيقاعها وموسيقاها بين: الرجز، والبسيط، والمتقارب، والخفيف، والرمل.
     هكذا يغدو مستهلّ الدلالة قابعا تحت عنوان كبير، أو سقف واسع هو (الاغتراب)، بما تشعه مادة (غرب) من إشعاع معنوي، وتلون دلالي يصب في صفات الغراب وطباعه؛ فغروب الشمس غيابها، وغرّب عنا، وغرّبه: نحّاه، والتغريب: النفي عن البلد، والغربة والغرب بفتح الغين: النوى والبعد، والنزوح عن الوطن، والغريب: الغامض من الكلام، والغرْب بسكون الباء: الحدّة،  بما يتبع  ذلك، أو يسبقه من ألوان الصفات المتصلة بالغراب، وأنواعها من: نفاق، وغدر، وشؤم وتشاؤم، وفراق، وبين، وريبة، وخبث، رجوعا إلى ملخص المأثور من أقوال العرب: "فلان أبْصر من غراب، وأحْذر من غراب، وأزهى من غراب، وأصفى عينا من غراب، وأشدّ سوادا من غراب، وأشأم من غراب، وأفسق من غراب، وأنه من أخبث الطيور، وإذا ضاق على الإنسان عيشه قيل: صرّ عليه رجْل الغراب. وأغربة العرب سودانهم شبّهوا بالأغربة في لونهم".
     وتلك آفاق الديوان السابح على أجنحة الإبيجراما في نقد منْ خانوا الكلمة، وصاروا عبيد الرأي.
     من ناحية أخرى لخّص الشاعر مضمون الديوان في الصورة البصرية للعنوان قبل أن يشرحه في دلالة العنوان ذاته، وفي حركة معناه، وفيما صاحبه واقترن به من مداخل وبهو تقوم فيه النصوص المستعارة لموقع الصدارة في الديوان؛ لتؤدي- مع العنوان- دورا وافيا يشرح دلالات الديوان ومعانيه.
     أما الصورة البصرية للعنوان فتبدو في الحروف المقطّعة، أو المفرّقة للكلمة، حيث آثر الشاعر إيراد الكلمة مفرّقة، أو على الأصح ممزّقة ( ل ي ن و ر)، وليست مجتمعة (لينور) الذي ذكره في إبيجراما ص48، وما بعدها حتى ص53، ثم ص82 يأتي أولها من الشعر الجديد، ثم يتتابع معظمها معنونا بالإيقاع الكلاسيكي:
أشعر أني كصاحب "لينور"/أسقط في شارع أجنبي/كصاحب ليلى المريضة/في حانة لا ترحب بي.
هذه الحروف الممزقة، شأنها، في هذا، شأن الشتات والتفرق والتمزق، في حياة الإنسان المعاصر الذي يعيش ممزقا مفزّعا بين معاول: النفاق، والشقاق، والفراق، والغدر، والقهر، والتشاؤم، أو كما قال النص:
- حتى يتم محو هذا الشئ من قلوبهم/ بالموت أو بالبغض أو بالبين
- يصنع للعشاق وجبتين/ كلتاهما أمرّ من خلاصة الصبارْ/ وكلما أحسّ منهم الاصطبارْ/ زاد من الجرعة مرتين/ حتى يتم محو هذا الشيء من قلوبهمْ.
     أما المداخل المتمثلة في بهو الاستعارات النصية فهي لأشعار مشاهير الشعراء والكتّاب العرب: كأبي العلاء المعري، والمتنبي، وأبي فراس، وعلقمة الشاعر. ومن الشعراء الأمريكيين: إدجار ألان بو.
     وهذه النصوص كلها تدور أو تتمركز حول (الغراب)، مستخدمة مفردات: (ابن دأية). قال الشاعر:
ولما رأيت النسر عز ابن دأية      ........................
أراد بابن دأية: الغراب، أو(البين)، أو(البزاة)، المكتنزة بدلالات: الفرقة:
نبيّ من الغربان ليس على شرْع       يخبّركم أن الشعوب إلى صدع
أو البين:
من شاعر للبين قال قصيدة       يرثي الشريف على روي القاف
أو الشؤم:
ومن تعرض للغربان يزجرها       على سلامته لابدّ مشئوم
أو اللعنة:
"وقد ذكروا في الأساطير أنّ منْ يرى الغربان أو يسمع بها أصابته لعنتها".
الإبيجراما:
     استعان الديوان- في معظم نصوصه- على فن الإبيجراما، وهو، في أبسط صوره، نص قصير مركّز العبارة، مكثّف المعنى، يستعير من القصة القصيرة جدا: الومضة الخاطفة، واختصار لحظة التنوير، بالاعتماد، غالبا، على الرمز والمفارقة واختيار اللفظ الدال، والعبارة الرقيقة التي تكون كالنصل المرهف ذي الحدّ الباتر، وهو عند البعض "فن التوقيعة" أو"التوقيعات"، ولا أميل إلى إطلاق ذلك المصطلح الذي ولد في تراثنا العربي، وعاش نثريا، يحمل توجيه المعاملات الإدارية، والتحذيرية، والتهديدية في الدولة الإسلامية، أما الإبيجراما فهي، كما قدمنا، فيها من الحوار والقص والرمز والنقد والتهكم والهجاء.
     وتنتهي الإبيجراما بما يشبه ختام القول، وخلاصته على نحو يركّز الغاية منها مثلما نجد في تلك النهايات:
- وضجّ سيف ضمّه قرابْ  
- قوْل تنبّأ فيه صاحبه/ عن نفسه فسقتْه أكؤسه
- كانت كذاك روحه ظلاما
- هوى بطعنة عليه لم يكن لها دواءْ
  كما نرى السرد في قصة ابن عرس (ص33)، وقصة تحول النسر إلى غراب (ص39)،  وغيرهما.
وتوظيف فعل القص:
كان حبا عفيفا ...  ـ كان أبوه من فصيلة النسور .... ـ كانت كذاك ...  ـ كان لا يلتقي اثنان بعد الغياب .... كان اسمه مرة ديابا ... ـ كان نهداك ..
   أو:
   -   ذا مرّة في مساء موحش ذهبْت         ..................
   -   في برد ديسمبر القاسي وشدته         ..................
  وتبدو الكثافة والتركيز في هذين المثالين من الإبيجراما:
- لم يكن لونه من سواد الشبابْ/ ولكنه من سواد الحجابْ/ كان لا يلتقي اثنان بعد الغيابْ/ دون أنْ ينقضي يومه في العذابْ.
- كان اسمه في مرة ديابا/ وأرضعته أمه الكلابا/ خان صديقه ولم يراع حرمة أو انتسابا/ هوى بطعنة عليه لم يكن لها دواءْ 
 ومن الحوار:
-قال الغراب: غاقْ .... - ويقول والإعجاب يسكرهمْ ...  - قالوا له .. .. - قلت لكم .... - قلتم فنحن ...  - يقول أبي إن هذا الغراب ... -قال الغراب: أراني ..... - تقول لي: إن السما أمطرتْ .. - فقلت: ياسيدي .... - تقول ابنتي ... - فقلت لها .... - قالوا سيضحك الغراب آخر الأشياء.... - قال الغراب: ....
     هكذا استعان الديوان بإمكانات الإبيجراما لعرْض وجوه من النقد الحادّ، ومن النقد الحاد للإبيجراما نقد النفاق والمنافق: ص45، و46. هكذا قدمتْ لنا النصوص المصاحبة تفسيرا أوّليا لمضمون الديوان، ومفاتيح للتأويل صالحة للتوظيف الفني المضيء والكاشف حين نصل إلى نصوص الديوان لنلتقي بالجملة الأولى منه وهي ماضية على جناح الفراق، وهو (القطار)، الذي يرمز، في الأدب والفن، إلى معان أولها (الفراق):
 - انطلق القطار بالصفيرْ/ فانخلعتْ أفئدة العشّاقْ
ليكون ختام هذا النص مشيرا إلى (عصا الترحال) بإيحاءاتها التراثية. 
 وتمضي الإبيجراما الثانية مع المعنى نفسه:
وكلما قال الغراب: غاقْ/ تطايرت مفاصل الأبوابْ/ وانفصل الضميم عن ضميمه/ وابتدر الجميع للفراقْ/ وضجّ سيف ضمه قرابْ
دال الغراب:
   ومنذ النص الثاني، أو الإبيجراما الثانية، يطل علينا دال (الغراب) صراحة:
    وكلما قال الغراب غاقْ  
   وفي أخرى نجد ميثولوجيا الغراب الذي تحول من فصيلة النسور، وصار لونه أسود  محترقا من أجل لؤلؤة  ص39، أو تجنب شؤمه  ص40 :
- ظل الغراب على ما كان ديدنه     يثير فيّ ابتساما وهو قد عبسا
- ظل الغراب على معتاد جلسته     لا اهتز ريش جناحيه ولا خفقا
  أو بالكنية (ابن دأية)، سمّي بذلك لوقوعه على دأية البعير الدّبر فينقرها، والدأي: مشية الختل من الذئب ليأخذ الغزال: ص 25، و ص26، و ص33، وابن عرس، وهي دويّبة معروفة دون السنّور، ذات ناب، وجمعها بنات عرس، ومثلها ابن آوي وبنات آوى .
     وتكون تلك الكنية رمزا لعنصر بشري مواز أو معادل:
أنا ابن الظلام أنا ابن الفيافي ص 60، الحريص على صوت الغين والقاف.
ورمزا آخر:
تقول ابنتي قد دفنت الغراب/ ففيم إذا كل هذا العذابْ/ فقلت لها إنّ هذا الذي/ ترين على الماء ظل الغرابْ ص 67
أو بالصفة:
شاعر البين ظل إلى آخر الدهر يتلو/ رويا على القاف يرثي الشريفا/ كان حبا عفيفا/ صير الأرض بعد الخرائب ريفا !
أو بصفة ملازمة له ( جيفته)، وأكثرها السواد:
- دماؤه السوداء في الشريان/ وقلبه الأسود والعينانْ
- أتباعه لست أحصيهم وجيفته/ ما بين مشرقها فاحت ومغربها
- كان أبوه من فصيلة النسورْ/ لكنه في نوبة من السرورْ/ أراد أن ينقذ من بين الحريق لؤلؤة / فعاد من محنته أسودا/ اسودّ منه الريش والفؤادْ/ وكلما حط على مكان اصطبغ المكان بالسوادْ، وإبراز لصفة السواد ص41 ، 63، ولعل أهمها:
أيها الســاكن في قلبي أنا       خلِّ ما بيني وما بين الســــنا
طيفك الأسود لا يدهمني       يجعـــل الشــلال مـــاء آســنا
أيها الجاثم في قلبي هنـا       خـــــلِّ مـا بيني ومـــــا بينـي أنا
  حتى ليتحول إلى أوديب 65:
وقد صار بعد ظلام العمى      أوديب أبصر أهل الفضا
      ويكون الصوت على لسان الغراب، وهو نعيقه ونعاقه ونغيقه ونغاقه، وبالغين المعجمة أولى في الغراب، وعلى هذا الأساس اللغوي كانت لغة الشاعر السيد إبراهيم:
سبحان ربي اصطفاني يوم توجني       أعزني فملكت الجو فوقهمو
الصوت:
وكما قدّمْنا فإنّ من لوازم الغراب صوته أو نعيقه:
-       وكلما قال الغراب غاقْ
وهنا تتجسد دلالات الصوت وأهميته في الديوان كله، وبخاصة صوت القاف، والصوت المسموع منذ ص10، في القافية كثيرا:
غاقْ ـ للفراقْ ـ الاشتياق ـ عميقةْ ـ دقيقةْ  ـ الشقيقْ ـ الرقيقْ ـ الحريقْ ..
بل تكون القاف قافية إبيجراما من الموسيقى الكلاسيكية:
ظل الغراب على معتـــــاد جلسته       لا اهتز ريش جناحيـــــــــــه ولا خفقا
ورحت في غرفتي أرنو إليــه على       تمثال بالاس فوق البــاب ملتصقا
كأن منظــــــــــر عينيـــــــــه وهيئتـــــــــــــه       منْ قال هيئة شيـــــطان فقد صدقا
قد بات يحلـــــــم والأحلام تدفعه       فظل يسبــــــح لا يخشى بها الغرقا
ألقى على الأرض ظلا كان يبعثه       ضوء تهادى من المصبــاح مندفقا
وكأنه الشاعر موحد القافية:
    -شاعر البين ظل إلى آخر الدهر يتلو
      رويا على القاف يرثي الشريفا

  الشاعر:
     ومن هذا المنطلق كان وجود الشاعر منذ النصوص المصاحبة حول الشعراء المذكورين آنفا، ومنه الإلحاح على ورود موقف الشاعر صراحة منذ ص 10 إمّا (شاعر البين) ص 18، وهو الغراب، الذي لا يشبه "خفاف بن ندبة السلمي"، بفتح النون، وندبة أمه وكانت سوداء حبشية، وهو من أغربة العرب في الجاهلية وهم: عنترة، وخفاف، وسليك بن السلكة، وهشام بن عقبة، وأبو عمر بن الحباب السلمي، وغيرهم من الإسلاميين، وهنا تلعب موسيقا البديع دورها في تبادلات "ندبة" بفتح الباء، وهي أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد، وضمها: اسم فعل بمعنى دعاء النادبة الميّت بحسن الثناء، حيث ما يحدثه الغراب من (ندبة ) تحتمل المعنيين، وعلى ذكر الآلام يأتي حديث أشعر الشعراء النابع عن جهل وخيلاء وبطش وقتل وألم، وكأنه رمز الحاكم الباطش المستبد المغرور بقوته، أو الشاعر الجاهل المغرور، أو التشبه بحالة عند شاعر آخر: بذكْر صاحب "لينور"، أو صاحب "ليلى المريضة" ، أو بما شاع في شعر نزار:
-       في صحيح نزار:/ كان نهداك فيما مضى يدعواني.
    حتى يتوقف أمام الشاعر المهيمن على معظم الديوان، وهو أبو العلاء المعري (363هـ ـ 449هـ/ 973م ـ 1057م) ص89 بدلالة العنوان أولا (إلى رهين العمى)، وهو رهين المحبسين: العمى، ولزوم البيت:
تماديا منك ياشيخ المعرة قد       شككت في الأمر: شيء فيكما وجدا
   وإذا لم يذكر الشاعر ذكر الفكر:
-       أهل الفكر والتنويرْ / نحن قرأنا كتبا كثيرةْ
والحرف ص73 ، ولهذا يعلو صوت الحكمة ص18 و 23، ومنها قوله:
- من كان لا يرضى الخورْ/ في نفسه وطباعه / لم يرض بالغفران إنْ شيء غفرْ.
     ومع المعنى السائد تأتي رموز شهريار ص26 ، و33، إشارة إلى انتهاء الثأر، أو الاقتران بالعروس.
الموسيقا:
     والديوان شعر وشعور، وهو عن الشعر، كما أنه عن الشعراء، ولهذا تنوعت الموسيقى- بقالبيها الكلاسيكي والجديد ـ بين بحور متنوعة، منها:
 بحر الرجز، منذ أول الديوان حتى ص46
وبحر البسيط 47، 49، 58، 59، 63، 64، 66، 68، 70، 73، 89.
وبحر المتقارب 60، 65، 67، 90، 91.
وبحر الخفيف 57، وبحر الرمل 92
   ومن الموسيقى موسيقا البديع كما قدمنا:
خفاف بن ندبةْ ـ من قلوب المحبين ندبةْ ـ جعبةْ
ومعها في النص نفسه: الحذر ، والحجر
في لغة تملأ المسافة بين الاستيحاء والتناص التراثي 35:
 - نصحتكمْ فخنتم النصيحةْ؛ تذكيرا بقول الشاعر:
         نصحتكمو نصحي بمنعرج اللوى       فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد
- سل الليل والخيل والبيد عني/ لقد أسمعتْ كلماتي الأصم ص83؛ مذكرا بقول شهير للمتنبي.
وتداولية التعبير ص 35 :
ونحن من يمر في الحديدْ
    وبعد .....
فمما يفوق طاقة تأويلي، ويتعدى مساحة آفاقه وقوفي أمام التأريخ في آخر الديوان عن ميلاد نصوصه فيما بين 3ـ 28/7/2002، وهذا ما أطرحه بين يدي الشاعر ليجلس مجلس الناقد مفسرا ومؤولا لهذا التأريخ.
____________ 

(1)             ط2 1998.
(2)             (2) القاهرة ، دار قباء 2003.
(3) القاهرة ، مركز الحضارة الغربية 2005. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق