بقلم الدكتور/
أحمد درويش
تثير
المؤلفات الرشيقة القيمة للأستاذ الدكتور السيد إبراهيم ، حول المذاهب ومناهج
النقد الأدبية الحديثة عامة، والاتجاهات الأسلوبية خاصة، كثيرًا من مشاعر الرضا
والإعجاب وجني الفائدة، وتطرح كثيرًا من التساؤلات حول طبيعة نشاط الناقد أو مؤرخ
النقد وصلته بطبيعة نشاط الأديب المبدع المبتكر، وهما جانبان يلتقيان إلى حد بعيد
في شخصية السيد إبراهيم.
وكنت قد
نصحت منذ فترة طويلة، طلابي في مرحلة الدراسات العليا بمراجعة كتابه القيم الرشيق
الحجم حول المذاهب النقدية الحديثة وتغطية المداخل الضرورية للإقدام على القراءة
فيها ومحاولة استيعابها، وأعتقد أنهم سعدوا وأفادوا من النصيحة وقراءة الكتاب
معًا.
والسؤال
الذي تطرحه قراءة نتاج الذين يجمعون بين موهبة الإبداع وموهبة النقد والكتابة
الأكاديمية، ومنهم السيد إبراهيم- هو : إلى أي مدى يمكن أن يتم التوازن في
كتاباتهم بين هذين الجناحين اللذين قد يتعاونان وقد يتصارعان، وقد يزدحمان في
الصدر كما كان يقول القدماء ويحاول كل منهما أن يزحزح الآخر ليجد له مكانا أوسع،
وعندما يبلغ التزاحم حد التوازن، كانت تنطلق صيحات الإعجاب كتلك التي أطلقها
القدماء قائلين :" ما ازدحم العلم والشعر في صدر رجل واحد، ازدحامهما في صدر
ابن دريد وخلف الأحمر".
وقد ساعد
هذا المبدأ على زحزحة كثير من أصحاب الموهبتين من مربع إلى آخر، وإن كان كثير من
أعلام العصر الحديث على نحو خاص، قد استطاعوا أن يمسكوا بأطراف الموهبتين معًا،
مثل العقاد والمازني وهيكل والقط وعز الدين إسماعيل وغيرهم. ونحن عندما نقرأ للسيد
إبراهيم قصائد عذبة مجنحة في ديوان عبير الرياض أو ديوان " صلوات
العشاق" أو ديوان " لينور " أو في قصائد أخرى متفرقة أو مجمعة ندرك
أنه يضرب بسهم وافر في مجال الإبداع الشعري بنفس القدر الذي يسهم به في مجال
الإبداع النقدي، وأنه استطاع أن يحافظ على نقطة التقاء وسطي بين المجالين وأن يوظف
بعض قدرات أحد المجالين في إنعاش قدرات المجال الآخر، واستطاع أن يفلت مما كان
يحذّر منه جون كوين، عندما قال" إن الشعر ذو مزاج ملكي"، فإما أن يسود
وحده أو يعتزل.
وإذا كان
ناقد ما، يستطيع أن يفلت من دائرة" التنافس الإقصائي" مع موهبة الإبداع
الأدبي، فما الذي يمكن في المقابل أن يستفيده من التعايش بين الموهبتين، ويخلع هذه
الفائدة من أحد المجالين على الآخر ؟ إن ذلك السؤال يستثير بدوره أسئلة متتالية
حول علاقة النقد بالإبداع، وهى العلاقة التي ولدت في العقود الأخيرة ، عدة عبارات
شائعة، كان من أكثرها قسوة القول بأن " الناقد هو مبدع فاشل " ومن أكثرها رقة القول بأن
" النقد هو الإبداع الموازي" وبين هذين الطرفين المتباعدين توجد مذاقات لا
شك فيها، يتميز فيها إنتاج الناقد الذي له من الإبداع نصيب قديم أو متواصل، عن
الناقد الذي يكتفي بتطبيق المعايير المتعارف عليها على النص الأدبي.
إن جانبًا
من هذا التميز، قد يكمن في القدرة الخاصة على الاختراق وتبنى جوانب في النص تشد
عيني الناقد القارئ، قبل البدء بتطبيق قواعده، وقد تجسدت هذه الميزة المفقودة أو
الموجودة في حوار شهير دار بين اثنين من كبار النقاد الفرنسيين في القرن التاسع
عشر هما جونكور وهيبوليت تين اللذين لم تكن شهرتهما ولا اتساع إنتاجهما موضع شك،
ولكن كانت بينهما بعض مظاهر الغيرة المعتادة عند كبار المتعاصرين، وقد كان جونكور
على نحو خاص دائم الحملة على هيبوليت تين، والانتقاص من قدره وعندما سأله أحد
الباحثين، ما الذي تأخذه عليه وهو مؤرخ كبير للأدب، وصاحب نظرية العوامل الثلاثة
المؤثرة في مسيرة الآداب، وهى البيئة والعصر والسلالة البشرية، أجاب جونكور، لا
أنكر سعة علمه ولا قدرته على التطبيق على أي نص يدرسه، ولكنني أعتقد أنه يفتقد ما
يمكن أن يسمى بحاسة الشم النقدية، أو حاسة " أنف كلب الصيد" الماهر الذي
يشم رائحة الفريسة وحده قبل أن يشير له أحد عليها، وهنا يكمن جانب كبير من
الاكتشاف والابتكار. أما كلب الصيد، الذي يستطيع أن يعدو، ويمسك بالفريسة، لكنه
يحتاج إلى من يدله علي مكانها أولاً، فهو أشبه بالناقد الذي يكون قادرًا على تطبيق
تفصيلات المناهج التي قرأها على نص مفرد أو عدة نصوص، ولكن قدرته على اكتشاف
المزايا أو الظواهر الكامنة فيها، والبحث عن المنهج الملائم لها، تكون أقل، أي أنه
يكون أكثر قدرة على الانطلاق من العام للخاص، منه على الانطلاق من الخاص إلى
العام.
إن شيئًا
قريبًا من هذا هو الذي يسود الإنتاج النقدي عندنا في العقود الأخيرة ويشكل سببًا
رئيسيًا من أسباب" عدم التميز" بين وحدات هذا الإنتاج النقدي، ابتداء من
الرسائل الجامعية لدرجات الماجستير
والدكتوراه، ووصولاً إلى بعض العناوين البراقة لنقاد مشهورين،يندفع القارئ إليها
طمعًا في أن تكون قد فتحت له نافذة على جماليات النص الأدبي، فإذا به تغرقه
تفصيلات الحديث عن منهج أو مناهج وافدة، وتواريخ ظهور مصطلحاتها وخلافات روادها،
والمناظير التي يوصي هذا المنهج أو ذاك، برؤية النص من خلالها، فإذا وصل الناقد
إلى النص الذي يحاوره، وجدنا أشكال المعالجة والنتائج تكاد تكون متشابهه في جميع
النصوص، وتتسم في مجملها بفقدان" المذاق الخاص" والمذاق الأدبي، وإن
كانت تكتسي بدلاً منهما الثوب العلمي أو الإحصائي أو الفلسفي أو الرياضي.
ويبقى الأمل
في البحث عن المذاق المتميز، وهنا يوجد نقاد لديهم لمسة من لمسات الإبداع في درجة
من درجاته وهم مع ذلك يتحصنون إلى أبعد مدى ممكن بالأسس العلمية والدراسة
الموضوعية ووسائل التحليل المختلفة، لكنهم لا يلجأون إليها لذاتها، وإنما لتحقيق
هدف جمالي، كان غائما، حتى التقطته حاسة الصياد الناقد، وعليه أن يكون مستقرًا
وواضحًا قبل أن يصل إلى المتلقي في صورة من صوره.
إن هذا
المذاق المتميز، قد يتجسد في جرأة طرح الأسئلة، والخروج على وهم الخضوع للأسئلة
المستقرة، وإعادة إثارتها من جديد، كما فعل السيد إبراهيم نفسه في دراسته عن
"الضرورة الشعرية" والانتقال منها إلى إثارة قضية "ضرورة
الشعر" وتخليصها من اللبس الذي لحق بها، حين تم الخلط بين الضرورة الشعرية
والضرورة الشرعية، وإلقاء كل مفهوم ظلاله على الآخر.
ويدخل في
هذا الإطار أيضا المحاولات الجريئة التي طرحها السيد إبراهيم في كتابه "الرمز
والفن، مدخل الأسلوبية والسيميوطيقا إلى الدرس الثقافي"، حين ألقى على التراث
الشعري مجموعة من الأسئلة الجديدة، وحاول أن يتعرف على بعض أسراره، وكما يقول
فإن" الشعر العربي، كله أسرار لا تقف عند حدود الألفاظ ولا تنكشف بالمعرفة
اللغوية بها، فإن هناك مفاتيح تضرب في أرض أكثر عمقًا. لدنيا سياق القصيدة،
وتقاليد الجنس الأدبي وأفق التلقي الناشئ عن معرفتنا بأعمال أدبية قد تستحضرها
القصيدة عن عمد وتتشابك وإياها في أنماط من الحوار، وهناك ما هو أدخل من ذلك وهو
الخلفية الثقافية التي ضاعت من أيدينا وتحتاج إلى إعادة بنائها من جديد".
وأيا كانت
درجة وجاهة أمثال هذه المقولات،التي قد تدخل تحت عبارة النقد الثقافي، فسيبقى
المحك الحقيقي لجدواها، وجدتها كامنًا في مواجهة النصوص التراثية، وقد أظهر السيد
إبراهيم جانبًا طيبًا من جدة المذاق وهو يطرح تساؤلاته هذه على نصوص زهير بن أبي
سلمى، وأوس بن حجر، والراعي النميري والشماخ وأمية وغيرهم من الشعراء القدماء.
ويكفيه أنه
طرق الباب وطرح أسئلة جريئة على هذه المرحلة من تراثنا الأدبي، التي تحتاج إلى
مزيد من أسئلة نقد المذاق المتميز لا نقد المقولات العامة الغامضة المبهرة.
والأسئلة التي يطرحها ناقد مثل السيد
إبراهيم على النص الشعري تشف عن مخزون ثري من الثقافة العربية الإسلامية التي ربما
تحلق في سماء المبدع دون وعي منه، وتكمن في ذهن المتلقي في انتظار أن تستثيرها
الأسئلة الذكية للناقد المتميز. وتستطيع أن تلتقط مثالا دالا هنا من قراءته لهمزية
زهير بن أبي سلمى ووقوفه أمام لوحة حمار الوحش ومطاردته للأتان في الرحلة الطويلة
نحو البحث عن منابع الماء الصافي الذي لم تكدره الدلاء من قبل ولم تسيق إليه أقدام
الباحثين عن الريّ، والناقد يرى أن البحث هنا أقرب إلى البحث عن الحقيقة البكر
الصافية، وهي حقيقة كان يتغياها زهير الشاعر المفكر المتحنف قبل الإسلام، وتشف
عنها كثير من أبياته المفردة وقصائده، ولا بأس أن تكون إذن صورة حمار الوحش الباحث
عن الماء، معادلا فنيا لصورة الشاعر الباحث عن الحقيقة، ودون الوصول إلى الهدف في
كليهما غموض وجهد ومشقة يتلوها مذاق الفرحة ببلوغ الهدف.
وعندما يكشف
الحقيقة الناقد هذا التوازي، وتنفتح عليه منافذ البحث عن الحقيقة، ترفده ثقافته
الواسعة بنماذج متعددة منها في التراث العرب والإسلامي، انطلاقا من تأمل إبراهيم
في الكواكب والنجوم وتجربته مع الشمس والقمر، مع إشارات إلى تجارب المسيح وزرادشت
ومرورا بقصة حي بن يقطان، ودون إغفال لقصة أصحاب الكهف عند أفلاطون.
لكن الناقد
حين يرتد للصورة الشعرية يحاول أن يتلمس من العلاقات الدقيقة بين مفرداتها مدى
تميزها عن قريناتها حتى في مجال الدوائر المتلاصقة، وقد وقف مثلا أمام صورة الغبار
الكثيف الذي تثيره الأقدام القوية للأتان الهاربة من ذكرها الذي يطاردها، وكيف أن
هذا الغبار، كان يشكل صورة تقليدية مألوفة عند الجاهليين، فكان بعضهم يجعله ملاءة
يتبادلها السابق واللاحق، أو يجعله سرادقًا يحيط بهما، أو يجعله شررا متطايرًا من
النار النابعة من أقدام الأتان يتخلل الغبار. والغبار في كل هذه الصور، يكاد يشكل
غطاء حاجبًا للرؤية. لكن الناقد أراد أن يستشف من غبار "زهير" شيئًا
آخر، يتفق مع فكرته حول الحقيقة التي يبحث عنها والتي تتطلب عدم حجب الرؤية، ومن
هنا فقد وقف بالتفصيل أمام مفردات صورة جميلة عند زهير تقول:
يخرُّ نبيثُها عن حاجبيه فليس لوجهه منه غطاء
ويعلق عليه
بأن "زهيرا" لا يستطيع أن يجعل التراب كالملاء إلا لو أراد أن يجعل طالب
الحقيقة في عماية تامة .. ولا يستطيع أن يجعله سرادقا إلا لو التفت إلى معنًى يشير
إليه السرادق .. وقد قصد إلى مسألة سقوط التراب وانهزامه عن عيني الحمار، وذلك
قوله "يخر" فلولا أن كان الحمار مؤهلا لهذه المواجهة، ولولا أن كان طالب
الحقيقة بحيث يؤهله استعداده، لجاز أن يلبسه ثوب تام من التيه والعمى والضلال.
وليس هناك
من شك في شدة إخلاص الناقد للعكوف على النص وتوجيهه لفكرته المحورية، لكن هذا
الإخلاص نفسه، قد يلفت نظر القارئ، إلى احتمال بنية النص لتوجيه آخر لا يلغي
التوجيه الأول ولكنه يوازيه، ذلك أن تأمل الشطر الثاني "ليس لوجهه منه
غطاء" لا يعني بالضرورة أن الوجه خال من الغطاء، وقد انكشف الأفق أمامه ولكنه
قد يعني كذلك أن نبيث التراب وقد خر عن الحاجبين، ولم يقل "تطاير" عنهما
قد جعل الوجه عاجزًا عن أن يتخذ دونه غطاء، فأصبح الغبار غطاء .
لكنني أقول،
إن القراءة الجيدة الخاصة، هي وحدها التي تستطيع أن تثير قراءات موازية أو حتى
مخالفة، لكن هذه القراءات الأخيرة، ما كان لها أن توجد إلا بعد أن تستثيرها قراءة
جيدة سابقة، وليس من الضروري أن يزحزح أحد الاتجاهين الآخر، ولكنهما يمكن معا أن
يوسعا مجال قراءة النص.
إن هذا
المثال الصغير يقف بين عشرات الأمثلة الأخرى للدراسات التطبيقية الجيدة التي تكتظ
بها مقالات وأبحاث الدكتور السيد إبراهيم وتشف بالفعل عن قدرات ناقد نظري وتطبيقي
مميز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق