الثلاثاء، 26 مارس 2013

الباحث الشاعر السيد إبراهيم


أ.د.أحمد شمس الدين الحجاجي:

         أعد نفسي محظوظاً حين أتأمل عطاء الله لي في هذه الحياة. فقد منحني الكثير وكان أعظم شيء وهبني الله إياه تلك العلاقات الفريدة التي تكونت بينى وبين كثير من الأصدقاء التي أحسب أنها كانت أجمل منة إلهية.
     وكان مما أسعدني الحظ بمعرفتهم وصداقتهم هو
الدكتور السيد إبراهيم، التقيت به مراراً بعد تخرجه سنة 1972 من جامعة عين شمس، وكان اللقاء في آداب القاهرة وكنت على وشك مناقشة رسالة الدكتوراه. شدني هذا الشاب الذي بدا عليه الطموح والتوسم كان يتكلم بثقة زائدة واعتزاز واضح بالنفس. لم يكن الشاب غريباً علي وقد سمعت عنه قبل رؤيته وكان أكثر ما يقال عنه إنه معتز بذاته واثق من معرفته وعلمه وكان النقد الذي يوجه إليه أنه في حاجة إلي أن يخفف هذه الثقة.
     والحقيقة أن هذه الأشياء لم تكن لتجعلني أكون عنه رأياً سلبياً فالثقة والغرور هي الطريق الأول للباحث ليسير في طريقه ويمثل موقفاً فلسفياً من الحياة، والإنسان حر في رأيه، وأن الحياة وحدها هي القادرة على توجيهه الوجهة الصحيحة. لماذا لا يعتز الشاب بنفسه؟ ولماذا لا يواجه من هم أكبر منه بثقة زائدة؟
     وبعد أن جلست معه عرفت أنه شاعر مرهف الحس متدفق مملوء بالحياة عاطفته الجياشة تأخذه إلي عوالم شتى مع الناس تاره بالحب وتاره بالثورة، يعرف أنه متميز وليس في ذلك عيب، أدخلته هذه الروح المتوسمة صراعات شتى مع أنداده من زملائة وربما من بعض الشباب من أساتذته.
     كان قويا وجريئاً، فهو شاعر في داخله روحان روح الشاعر وروح الباحث، والرأي العام يقول إنهما متعارضان؛ فالشاعر قد يقتل الباحث والباحث قد يقتل الشاعر ولابد أن يستسلم أحدهما للآخر، ترى من ينتصر؟ أنا أري أنه  ليس من الضروري أن ينتصر أحدهما على الآخر، ولكن الباحث قد يأخذ وقت الشاعر، ولكنه لا يقتله لأنه في النهاية يحول البحث إلى بناء شعري كامل وإن تغلب عليه العقل وهذا ضروري، وهذا ما حدث مع الدكتور سيد إبراهيم؛ لم يتوقف عن الشعر ولكنه عمق فى البحث أكثر وأكثر وكان عليّ أن أنتظر لأري من الذي سينتصر هل يستطيع أن يزاوج بين الشاعر وبين الباحث؟
     بعد هذا اللقاء سافرت بعيداً عن القاهرة، وبينما كنت أجلس فى مكتبي في معهد الدراسات الأفريقية/جامعة ويسكانسن التقيت به على غير ميعاد التقيت بعقله وإدراكه. اختلط الباحث بالشاعر في هذا اللقاء، إذ أرسلت إليّ مكتبة الجامعة عددا من الكتب لأري أي الكتب يحتاجها المعهد ليبقى في مكتبة الكلية فوقع في يدي كتابه الضرورة الشعرية الذي حصل به على درجة الماجسيتر سنة 1976 وطبعه سنة 1979، فسعدت به كثيراً. ظهر الباحث وهو يقتحم عالم الشعر الصعب في أعمق أعماقه داخل دائرة اللغة "الضرورة الشعرية". لقد تدخل الشاعر في الباحث ليخرج هذا العمل وأخذت أقرأ البحث الذي شدني ولم أتوقف حتي انتهيت من قراءته، فالكتاب ليس عملاً إبداعياً روائيا أو شعرياً أو دراسة في إبداعهما، وإنما هو عمل في صلب البحث اللغوي، يعد رائدا في الدراسة الأسلوبية في التراث اللغوي القديم، فالضرورة الشعرية التي يتصور أنها محاولة من أساتذة النحو الكبار لتفسير الشذوذ في النحو أو تفسير الاختلاف الذي يقع بين القاعدة النحوية وبين المنطوق الشفاهي للغة عند الشعراء القدامى. لقد اختار السيد إبراهيم الطريق الصعب ليبدأ حياته العلمية شاباً في مقتبل العمر ليفك ما غلق من اللغة مئات السنين، ليكشف أن الضرورة الشعرية ليست ضرورة فهي الركن الأساسي لتركيب اللغة. فكان هذا أول لقاء بين الشاعر والباحث.
      ومع أنه في الوقت الذي كتب فيه بحثه كانت قضية الشعر الجديد وعلاقته بالفصحى مطروحة إلا أن أحدا لم يناقش قضية الضرورة الشعرية لهذا الشعر. والتوقف عند هذا الموضوع يكشف عن باحث متميز أخذ نفسه بالشدة ليعمق إدراكه للواقع اللغوي القديم ويفتح آفاقاً للمعرفة.
     لقد ظهر في بحثه- وهو في بدايته - دقة المنهج الذي بدأ به حياته فإنه بهذا سار في الطريق الصحيح نحو تكوينه عالماً مدققاً. وعندما أعاد طبع كتابه أعطاه عنواناً آخر يمثله تمثيلاً دقيقاً "الأسلوبية والظاهرة الشعرية: مدخل إلى البحث في ضرروة الشعر". لقد كان رائداً في طريق الدراسات الأسلوبية باللغة العربية .
     وحين اختار لنفسه موضوعاً للدكتوراه لم يتركه الشعر فقد أحاط به وحاصره ليدرس موضوعاً خاصاً بالشعر الإسلامي عن قصيدة "بانت سعاد" التي أثرت في كثير من الشعراء الإسلامين.
     كان يبدو على السيد إبراهيم أنه يريد أن يكون باحثا موسوعياً من الأساتذة الباحثين الذين وجهوا طريق دراستنا مثل طه حسين والمازني وأحمد أمين، فهو ما إن انتهى من دراسة الأدب القديم حتى أخذ موضوعاً في الأدب الحديث في نظرية النقد ليدرس الرمز والفن، وكانت ثقافته الواسعة ومعرفته باللغة الإنجليزية تساعده على أن يتابع دراسته للأدب والنقد الحديث دراسة دقيقة "في النظرية النقدية". وهو أحد القلائل الذين اهتموا بتقديم مرجع أكاديمي عن الدراسات في النظرية النقدية والذي يعد مرجعاً ومعلماً في موضوعه ليؤكد لي أنه استقر بين الباحثين الكبار باحثاً موسوعياً ينتظر منه الكثير وأن الشعر الذي تحرك معه في صباه قاده ليكون الباحث الذي يفيد الباحثين والشعراء دون أن يتخلى عن الشعر الذي استمر يبدع فيه دون توقف. ولكني أحس أن الشعر شكل أبحاثه وأن البحث أكل وقت الشعر ولكنه لم يغير من حساسيته ومن مشاعره الفياضة.
     وكما تتبعت جهد الدكتور سيد إبراهيم العلمي تتبعت حياته في الجامعة. وأذكر أن  المرحوم الدكتور سيد النساج تحدث معي في شأن دعوته للانتقال للعمل مدرساً مساعداً في جامعة حلوان وكنت أحبذ هذا الاختيار فكلية الآداب حديثة العهد وفي حاجة لباحثين جدد مثله فإنه يملك قوة الباحث وثورة الشاعر وروحه، وكما أراد  المرحوم الدكتور سيد النساج أن يضمه إلي آداب- حلوان ، وكذلك  أراد الدكتور سيد حنفي أن يضمه إلي جامعة بني سويف وكان ذلك الاختيار ناجحا، فقد كانت الكلية تعتمد على الأساتذة المنتدبين من جامعة القاهرة ومن غيرها من الجامعات وشخصية مثل شخصية الدكتور سيد بالتأكيد قادرة أن تساعد في بناء الكلية وأن تساعد على استقلالها. وقد أصبحت الكلية التي عمل بها أستاذا مساعدا وأستاذاً ثم أصبح وكيلاً لها وبعد ذلك عميداً في جامعة مستقلة قائمة بذاتها تنافس في ذلك أقدم كليات الآداب في مصر.
     لقد شاهدته وهو يعمل أستاذا زائراً في جامعة الملك سعود في السعودية في قمة النشاط والحيوية، يذهب الكثيرون منا إلي البلاد العربية ولا يفكرون في شيء جديد يضيفونه للعالم الذي انتقلوا إليه ولكنه كان كتلة من النشاط، تابع الحركة الأدبية النشطة في السعودية بالعرض والنقد المثمر وكان مثالاً جليلاً للباحث المصري وللإنسان المخلص الذي يهتم بأصدقائه ويتمنى أن يقوم بعمل إنساني مثمر وبعمل علمي فيه فائدة للإنسانية.
     إني لا أملك إلا أن أحيى الدكتور سيد إبراهيم لعلمه وإنسانيته وروح الخير التي يقدمها بحب لكل أصدقائه ومعارفه وكل من  يري فيه خيرا ً، فله مني كل الحب.
     وإني لأشعر أنه من الذين أكرمني الله بمعرفتهم ومودتهم وحبهم إنساناً وباحثاً وشاعراً عظيماً. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق